" وصية إلى : نفس زكية .. و روح نقية .. و عقل راجح ذكي .. و فؤاد مؤمن صفي.."

"أي بني :

اثبت على دأبك الصالح.. و اسبح في فيوضات فكرك الفاسح.. و انسج خيوط يومك الفالح .. هم في أعماق الفكرة.. و لا تجثو بين أحداق النبرة.. قيض لنفسك الهمم.. و انفض غبار الغشاوة و الحمم.. لا تسق عيناك مساق الفتن.. فتذق طعم الصبابة و المحن.. إنه وبيص حالك.. فاحذر و إلا امسيت هالك..

لا تنس وعدك المشهود.. و لا تنكث ميثاقك المعهود.. اثبت إذن على دأبك الصالح.. و اقتحم هوة كل طالح.. لا تمش بين الفلوات المقفرة.. بل الزم المسالك المقمرة.. اركب سفينة التقوى.. و ادرأ عن نفسك البلوى.. لا تزح ثوب النجاة عن قدك.. كن كأسلافك و سيرة جدك.. لا تكن أنت في ردك و صدك.. بل كن أنت مرآة لقلبك و حبك.. كن كما عهدت فيك رجلا جلدا صابرا.. و جلمودا مكافحا و مثابرا.. لا تأبهن بالدواهي و النوائب و الرزايا.. و لا تغرينك ذوات البهاء و العطايا.. كن للمثبطات متجاوزا.. و للعثرات قافزا.. و للمثالب مرمما.. و لغدك مصمما.. إياك أن تنتكص.. و احذر لنفسك أن تبتئس.. و لعقلك ان يبور.. و لقلبك أن يجور.. لا تخيب أملي و شموس غدي في يومك الذهبي.. كن ذاك الصنديد الأبي.. فأنت المستقبل و أنت الركن و أنت نشوة الحياة.. و أنت أريحية الروح السمحاء.. أنت صفاء السريرة.. و عبق الوجود.. لا تغفل تذكر أنك مجدود.. أخلص علمك و عملك لربك المعبود..

أي بني :

كبدي..فؤادي..نور مقلتي..لا تبلس بالقدر..فنعم الحال حالك..و بئست الحياة غير حياتك..احمدن ربك..و عد أهلك..و ارحم بالله من هلك قبلك..لا تغفو عيناك عن ربك تريد زهرة الحياة الدنيا و زينتها..بحبوحتها و بهجتها.. اسأل من ربك العفاف.. و ادعه الكفاف.. اسأله من دنياه عملا صالحا.. و صاحبة زهية سنية صالحة.. و اسأله من أخراه رضوانا و جنة و نعيما و خلدا عظيما..لا تتلهى نفسك عن أمورك و واجباتك..كن لوقتك ضابطا.. و لواجبك منظما.. و لنفسك مزكيا.. و لعصرك متقصيا.. لا تخبطن خبط عشواء.. و لا تخوضن معركة شعواء.. كن بين الحزبين مقتصدا.. و لا تكن مفرطا أو مكتسدا.. أنر طريقك بمشكاة عقلك.. و أخمد توهج نفسك و بركان نفسك.. بتلاوة وحي ربك.. و لذ إلى رحابه.. و ارتكن تحت ظلال جنابه.. فإنه سبحانه واسع المغفرة.. متقبل لكل معذرة.. لا يخذل عباده الصالحين.. و لا يردهم عن بابه خائبين..

"..قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعا. إنه هو الغفور الرحيم." صدق الله العظيم

-إلى ابني " محمد و أيوب " و إلى تلاميذي .. أهدي مقاصد هذه الوصية الروحانية الصافية.. المنبجسة من أعماق أوصال قيثارة الفؤاد .. بكل ما تحمله من معاني النصح و الإرشاد ..

- توقيع الأستاذ عزيز سشا

ملخص دروس اللغة لتلاميذ السنة الثانية باك آداب و علوم إنسانية - الدورة الأولى -


ملخص لدروس اللغة – الدورة الأولى " الفئة المستهدفة : الثانية باك آداب و علوم إنسانية


عنوان الدرس   1   :  التوازي              


التوازي هو التشابه القائم على تماثل بنيوي في بيت شعري أو أبيات شعرية .وعادة ما يكون التشابه بين المتوازيين باعتبارهما طرفين متعادلين في الأهمية من حيث المضمون والدلالة ، ومتماثلين من حيث الشكل في التسلسل والترتيب.

ويشترط في التوازي عنصر التوالي دون وجود فاصل بين الجمل المتوازية.

*أنواع التوازي:

ينقسم التوازي إلى ثلاثة أنواع :

أ ـ التوازي الصوتي     ب ـ التوازي التركيبي(تام وجزئي)    ج ـ التوازي الدلالي

*صيغ التوازي:

يتحقق التوازي بصيغتين: ـ التوازي بالترادف    ـ التوازي بالتضاد


عنوان الدرس        2 : التكرار


*تعريف التكرار:

التكرار ظاهرة موسيقية ومعنوية تقتضي الإتيان بلفظ متعلق بمعنى ، ثم إعادة اللفظ مع معنى آخر في نفس الكلام.

*أنواع التكرار : يتحقق التكرار عبر عدة أنواع:

  1ـ تكرار الحرف : وهو يقتضي تكرار حروف بعينها في الكلام ، مما يعطي الألفاظ التي ترد فيها تلك الحروف أبعادا تكشف عن حالة الشاعر النفسية.

2ـ تكرار اللفظة: وهو تكرار يعيد نفس اللفظة الواردة في الكلام لإغناء دلالة الألفاظ ، وإكسابها قوة تأثيرية

3ـ تكرار العبارة أو الجملة: وهو تكرار يعكس الأهمية التي يوليها المتكلم لمضمون تلك الجمل المكررة باعتبارها مفتاحا لفهم المضمون العام الذي يتوخاه المتكلم.إضافة إلى ما تحققه من توازن هندسي وعاطفي بين الكلام ومعناه.

*أغراض التكرار ووظائفه:

1ـ الوظيفة التأكيدية: ويراد بها إثارة التوقع لدى التلقي ، وتأكيد المعاني وترسيخها في ذهنه.

2ـ الوظيفة الإيقاعية: فالتكرار يساهم في بناء إيقاع داخلي يحقق انسجاما موسيقيا خاصا .

3ـ الوظيفة التزينية: وتكون بتكرار ألفاظ مختلفة في المعنى ومتفقة في البنية الصوتية،مما يضفي تلوينا جماليا على الكلام.


عنوان الدرس      3 : الصورة الشعرية مكوناتها (1) : اللغة العاطفة الخيال


*تعريف الصورة الشعرية: الصورة الشعرية تركيب لغوي بمكن الشاعر من تصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل ليكون المعنى متجليا أمام المتلقي، حتى يتمثله بوضوح ويستمتع بجمالية الصورة التزينية.وتعتمد التجسيد والتشخيص والتجريد والمشابهة

*أنواع الصورة الشعرية : تتشكل الصورة الشعرية بعدة مستويات:

1ـ الصورة المفردة : وتعتمد التصوير الحسي الموجود بين المتشابهين في الظاهر دون النفاذ إلى المعاني النفسية.

2ـ الصورة المركبة : وتكون عبر تصوير يجمع بين ما هو حسي وما هو نفسي عاطفي

3ـ الصورة الكلية   : وتعتمد على تكثيف كل عناصر الصورة عبر التنسيق بينها في سياق تعبيري واحد، والجمع بين ما هوتجسيدي وما هو نفسي، في تشكيل يعكس تجربة الشاعر.

*مكونات الصورة الشعرية:

تعتمد الصورة الشعرية على ثلاث مكونات أساسية :

*مكون اللغة: نسيج الألفاظ في التعبير الشعري يشكل الصورة التي يعبر بها الشاعر عن تجربته، فاللغة هي عماد الصورة الشعرية.

*مكون العاطفة: تعتبر العاطفة هي الروح التي تنفخ في اللفظة التي تأخذ القالب النفسي الوجداني لحالة الشاعر.

*مكون الخيال: وهو الذي يمكن اللغة والعاطفة من تحديد معالم الصورة فيتفاعل معها المتلقي شكلا ومضمونا


عنوان الدرس 4 :  الصورة الشعرية:  مكوناتها (2)


* مكون التشبيه ومكون الاستعارة

الصورة الشعرية تتكون من مكونات داخلية :اللغة والعاطفة والخيال ، ومكونات بلاغية :هي التشبيه والاستعارة.

*مكون التشبيه:وهو بيان أن شيئا شارك غيره في صفة أو أكثر،ويتكون من طرفين أساسيين:المشبه والمشبه به ،وقد يكونان محسوسان يدركان بالحواس ،أو معنويان يدركان بالعقل،هما معا أو أحدهما.

أما الأركان الأخرى وهي :الأداة (ك ـ كأن ـ مثل ـ شبه )،فيكون التشبيه مرسلا إذا ذكرت الأداة ومؤكدا إذا حذفت ووجه الشبه إذا ذكر كان التشبيه مفصلا وإذا حذف كان التشبيه مجملا.

*مكون الاستعارة : الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه ،مع وجود قرينة تمنع إرادة المعنى الحقيقي.وهي نوعان:

ـ استعارة تصريحيه: يصرح فيها بالمشبه به ويحذف الشبه مع وجود قرينة تمنع إرادة المعنى الحقيقي.

ـ استعارة مكنية : يذكر فيها المشبه ويحذف المشبه به مع وجود بعض اللوازم الدالة عليه.وقرينة تمنع المعنى الحقيقي.


عنوان الدرس    5  :  الصورة الشعرية:  وظيفتها (1)


*  الوظيفة النفسية و الوظيفة التأثيرية

الصورة الشعرية تؤدي وظيفتين أساسيتين:

*وظيفة نفسية : ومن خلالها يسعى الشاعر إلى التعبير عن عواطفه وأحاسيسه، وتتميز بالخصائص

    ـ التدرج في التعبير عن نفسية الشاعر بدءا من نفسيته والغرض الذي يرمي إليه              

    ـ التركيز على مشاعر الشاعر الداخلية، وتجربته الوجدانية .

    ـ هيمنة البعد النفسي على تشكيل الصورة فكريا وفنيا جماليا .

*وظيفة تأثيرية : وتسعى إلى إشراك المتلقي وإقناعه بمواقف الشاعر وأفكاره، ومن مميزاتها ك

    ـ تجسيد المجردات وتشخيص المعاني حتى يتأثر المتلقي مباشرة مع الصورة .

    ـ إقناع المتلقي بالفكرة أو المعنى المراد من الصورة .

    ـ إثارة الاستجابة الفنية في المتلقي بتحريك مخيلته وما يختزنه من أفكار ودلالات.

    ـ تحقيق التناسب الوجداني بين حالة الشاعر والصورة الشعرية.

      وتستمد الصورة الشعرية وظيفتها التأثيرية من ثلاث أسس:

    ـ تجارب الشاعر الشخصية وتأملاته في الحياة .ـ استثمار تجارب الآخرين والتواصل معها.

    ـ مهارات الشاعر الإبداعية القادرة على احتواء المتلقي والتأثير فيه.

* مهارة كتابة موضوع إنشائي متكامل حول نص شعري ينتمي إلى تيار تكسير البنية ( الشعر الحر ) *


* النص الشعري :" في الليل "/ للشاعر : بدر شاكر السياب (نموذجا ).

* الفئة المستهدفة : الثانية باك علوم إنسانية و آداب .

_________________________________________

- النص الشعري :


            "في الليل .."


1. الغُرفَةُ موصَدَةُ البابِ

2. والصَمتُ عميقْ

3. وستائرُ شبّاكي مرخاةٌ..

4. ربَّ طَريقْ

5. يتنصَّتُ لي ، يترصَّدُ بي خلفَ الشبّاكِ ، وأثوابي

6. كمفزِّعِ بستانٍ ، سودُ

7. أعطاها البابُ المرصودُ

8. نَفَساً، ذرَّ بها حسّاً ، فَتَكادُ تفيقْ

9. من ذاك الموتِ ، وتهمسُ بي ، والصمتُ عميقْ :

10.” لم يبقَ صديقْ

11. ليزورَكَ في الليلِ الكابي

12. والغرفةُ موصدَةُ البابِ ” .

13. ولبستُ ثيابيَ في الوهمِ

14. وسريتُ : ستلقاني أُمّي

15. في تلكَ المقبرةِ الثكلى ،

16. ستقولُ : ” أَتَقْتحمُ الليلا

17. من دونِ رفيقْ ؟

18. جوعانُ ؟ أتأكلُ من زادي :

19. خرّوبِ المقبرةِ الصّادي ؟

20. والماءُ ستنهلُهُ نَهلا

21. من صدرِ الأرضِ.

22. ألا ترمي

23. أثوابَكَ ؟ والبَسْ من كَفَني ،

24. لم يبلَ على مرِّ الزمنِ ؛

25. عزريل الحائكُ ، إذْ يبلى ،

26. يرفوهُ . تعالَ ونمْ عندي :

27. أعددتُ فراشاً في لَحدي

28. لكَ يا أغلى من أشواقي

29. للشمسِ ، لأمواهِ النهرِ

30. كَسْلى تجري ،

31. لهُتافِ الديكِ إذا دوّى في الآفاقِ

32. في يومِ الحشرِ” .

33. سَآخذ دربي في الوهمِ

34. وأسيرُ فتلقاني أُمّي.


________________________________________

- موضوع المنهجية المتكاملة :


شكّل شعر تكسير البنية اتجاها شعرياً بالغ العمق والفرادة في منظومة الأدب العربي الحديث، إذ تمكّنت القصيدة العربية، في خضم هذا الإبدال، معانقة آفاقٍ إبداعية جديدة، نسفت خلالها القوالب الجاهزة والأبنية الشعرية النمطيّة التي كرّسها شعراءُ إحياء النموذج ، وأخلصوا لها ، ثم جدّدها، جزئياً، شعراء سؤال الذات . لقد فرض السياق التاريخي، بما حمله في أعطافه من تحولاتٍ سياسية ونكسات اقتصادية واجتماعية، البحثَ عن شكلٍ شعريٍّ يتساوقُ مع هذه التحولات.. من هنا، كانت الانطلاقة الفعليّة لارتياد ميسم شعريٍّ متحرّر من قيود المواضعاتِ الإبداعية البائدة.

إنّ ما حَبلت به النكبة الفلسطينية من أوجاعٍ وتصدعاتٍ، ومَا كابدهُ العالم العربي من استعمار غاشم، شجع شعراء هذه المرحلة على التخلص من رِبْقَةِ القصيدة القديمة و هيكلها الصارم ، للبحث عن نسقٍ فنيّ متفجرٍ، يمنح الشاعر فرصة التعبير عن حرقته و لواعجه و مراثيه و أفكاره و بوحهِ الأليم بطريقة سلسلة، طيعةِ لا إجحاف فيها و لا قيود ..

ومن الشعراءِ الذين تجشموا مَهمة اجتراح هذا الأنموذج الشعري وكسر النظام الشعري التراثي القديم ، نلفي الشاعر العراقي الكبير " بدر شاكر السياب " إلى جانب  الشاعرة " نازك الملائكة "وشعراء آخرون يضيقُ السياق عن ذكرهم جميعاً..

فما المضمون الشعري الذي عبر عنه الشاعر  ؟ و ما الخصائص الفنية و المعجمية و الإيقاعية المستثمرة

في قصيدته "في الليل" ؟  و إلى أي حد يعد هذا النص مثالا واضحا لشعر تكسير البنية شكلا ومضمونا ؟

أسئلة و أخرى سنحاول الإجابة عنها في مساق القراءة المنهجية التحليلية المتكاملة لهذا النص قيد الدرس .

يتضح من خلال النظرة البصرية للنص أن القصيدة تضع حدا فاصلا مع الموروث الشعري التقليدي، فقد كسرت الشكل الهندسي للقصيدة العمودية باستثمار نظام السطر الشعري بدل نظام الشطرين المتناظرين، كما استبدلت تنويع القافية والروي بوحدتهما، وتتفاوت الأسطر فيما بينها من حيث الطول تبعا للدفقة الشعورية. أما العنوان فيمثل شبه جملة غير تامة " في الليل = جار و مجرور "، الشيء الذي يدفع القارئ المخاطب إلى استعمال السيرورة التأويلية لاستبطان متاهاته إتماما لمعانيه، حيث يتم الربط بين الليل وما يحفل به من معان وسمات مميزة (الحزن ، الكآبة، السهر، السهاد، البعد ، الهدوء، السكينة، الموت ، الخوف...). فما علاقة العنوان بقصدية الشاعر ؟ وإلى أي حد يعتبر عتبة لمعرفة غياهب النص؟


لقد استهل الشاعر" بدر شاكر السياب" قصيدته بتأثيث فضاء الغرفة الموصدة واصفا إياها ومضفيا عليها مسحة كئيبة، ثم نظر إلى ثيابه نظرة متسائل يناجيها ويتحدث إليها افتراضا، لينتقل إلى حوار في خلده مع أمه، التي تحضر في جل قصائده، كاشفا عن نظرته الشمولية المختلفة نحو المكان والزمان والموت، ليؤول في نهاية المطاف إلى تأكيد لقائه بأمه في اللحد ، وفي ذلك إشارة إلى دنو أجله، فالسياب كان دائما يرى خلاصه في موته، نتيجة مرضه العضال الذي لم ينفع معه أي علاج..و يمكن أن نستجمع هذه المضامين في رؤية الشاعر الشاملة نحو الزمان والمكان والموت انطلاقا من معاناته، وهي رؤية ذاتية نفسية تطفح بها أغلب قصائده.


و لإبراز هذه المضامين الذاتية و النفسية المتأزمة استعان الشاعر بمعجم يمتح مادته من عناصر الطبيعة ، وهو معجم يجمع بين السلاسة والجزالة، تتخلله بعض الكلمات التي تستلهم من اللغة الموروثة، و يتوزع هذا المعجم إلى ثلاثة حقول دلالية هي :

* حقل الألفاظ الدالة على المكان نمثل لها ب:(الغرفة، ستائر، بستان، المقبرة، الأرض، لحد، النهر...).

* حقل الألفاظ الدالة على الزمان نمثل لها ب: (الليل، سريت، الزمن، يوم، الحشر، أسير، ستلقاني...).

* حقل الألفاظ الدالة على الموت نمثل لها ب: (الموت، سريت، الثكلى، أمي، كفني، عزريك، نم، لحدي...).

✓ تجمع بين هذه الحقول علاقة بنيوية متكاملة تجسدها النظرة الشمولية للشاعر نحو الكون والعالم، فالسياب يعيش غربة في المكان وغربة في الزمان وغربة في المصير المنتظر ( الموت ) ، إن الغربة إذن هي النواة الجامعة لهذه الحقول الدلالية .

هذا من الناحية المعجمية، أما من الناحية التركيبية فقد تعددت الضمائر في القصيدة بين ضمير الغائب (يتنصت ، يترصد ، أعطاها الباب المرصود نفسا...)، وضميري المتكلم والمخاطب في الحوار ( ليزورك، لبست ثيابي، سريت، ستقول لي..)، ليجعل من القصيدة مرآة تعكس قصة متخيلة صنعها مخيال الشاعر المتأثر بمغص مرضه العضال .

 أما ما يتعلق بالجمل فقد زاوج صاحب النص بين  الجمل الفعلية الدالة على الاستمرار و الحركية و الدينامية والتجدد ، و الجمل الإسمية الدالة على الثبات والاستقرار ، فالشاعر يرصد من خلال الإسمية حال الغرفة ومعاناته بها (الغرفة موصدة الباب، الصمت عميق..) ، بينما تدل الفعلية على التحول (ليزورك في الليل الكابي، لبست ثيابي، سريت، ستلقاني أمي، لم يبل على مر الزمن، أعددت فراشا...)، وهي المهيمنة في النص، لأن الشاعر بصدد التحول نحو المصير المحتوم: الموت.

و من الناحية التصويرية اعتمدت الصورة الشعرية في النص إلى جانب الانزياح و الرمز و الإيحاء على التشبيه مثل: (وأثوابي كمفزع بستان)= تشبيه محسوس بمحسوس، وكذلك الاستعارة كما في قوله (أعطاها الباب المرصود نفسا) = الاستعارة المكنية حيث حذف المشبه به(الروح) وأبقى على شيء من لوازمه (النفس) ، وكذلك الشأن في (من صدر الأرض) كاستعارة مكنية أيضا.. وكلها صور تقوم بوظيفة تعبيرية إبلاغية في النص، كما يمكن جعل القصيدة كلها صورة مشهدية شاملة كلية.

و فيما يخص الأساليب فقد زاوج الشاعر بين الأسلوبين : الخبري والإنشائي، فهو يستعمل الأول للإخبار عن معاناته وتصوير واقعه المزري، والغربة التي يعيشها في المكان والزمان والموت (الغرفة موصدة الباب، ستائر شباكي مرخاة..)، وهي كلها أخبار خالية من التوكيد ، أما الثاني فيرتبط بانفعالات الشاعر و يغلب عليه الإنشاء الطلبي المتمثل في الاستفهام (من دون رفيق؟ خروب المقبرة الصادي؟ ألا ترمي أثوابك؟) وهي استفهامات لا تفيد بحسب مقتضى الظاهر، بل خرجت عنه لتفيد معنى مستلزما حواريا بحسب مقتضى الحال تفيد الالتماس واليأس.

و من حيث الإيقاع الخارجي نظم الشاعر قصيدته على تفعيلة (فاعلن) المقتبسة من وزن بحر المتدارك، وهو من الأوزان الخليلية الصافية، بيد أنه لم يحترم قواعد الخليل في استثمارها ، حيث وظف نظام السطر الشعري بدل نظام الشطرين المتناظرين، و وزع التفعيلة في أسطره الشعرية بشكل غير متكافئ حسب دفقته الشعورية وتجربته الشاعرية، فهي حينا واحدة(السطر الرابع) وحينا آخر تفعيلتان أو ثلاث تفعيلات.. كما اعتمد ظاهرة التدوير حيث تبدأ التفعيلة في السطر الخامس و تنتهي في السطر السادس، ونوع القافية و الروي، فالأولى مطلقة رويها متحرك في الأسطر ( 15- 20..)، ومقيدة رويها ساكن في أسطر أخرى( 4-8..) مردفة (8-3-4-17) وغير مردفة (20-22..)، و الروي حينا القاف، وهو حرف شديد جهور، وحينا الباء أو الدال، وهي كلها شديدة، أو النون و الميم، وهي حروف شفوية تدل على الأنين والحزن، إنها أصوات مرتبطة بالمعاناة والأسى والتأزم.

أما الإيقاع الداخلي فتميز بتكرار حروف بعينها أهمها أرواء القصيدة، فالقاف تكرر 13 مرة والدال تكرر 12 مرة والباء تكرر 13 مرة، وهي كلها حروف شديدة مجهورة تعكس شدة المعاناة والجهر بها، كما تكررت عدة حروف مهموسة كالهاء والسين لتعكس الجو النفسي المتأزم للذات الشاعرة ، وتكررت أيضا الحروف الممدودة باطراد لتفيد التأوه والحسرة، ولم يقتصر التكرار عند الحروف، بل تعداه إلى الكلمات (الباب 3 مرات، والصمت مرتان) وتكررت عبارة (الصمت عميق)، وتكررت كلمات عن طريق الجناس (نهلا/ نهل، ليلا / الليل)، و أسطر شعرية محددة بعينها قدمت القصيدة في صورة أغنية حزينة ، أما التوازي فيتضح من خلال التوازي الصرفي ( عميق/ صديق، زادي/ صادي، عميق/ طريق,,)، والتوازي التركيبي التام في قوله: (الغرفة موصدة الباب، رب طريق، لم يبق صديق)، ثم التوازي الدلالي (62-27) الذي يضم كل الكلمات التي تجمعها نواة معنوية ناظمة للنص تفيد المعاناة والاغتراب.

✓إن المزاوجة بين التكرار والتوازي وغيرهما على مستوى البنية الإيقاعية قد خلق للنص منغما موسيقيا منسجما مع المعاناة التي يعيشها "بدر شاكر السياب " و ذلك، لا محالة، يؤثر في نفسية المتلقي.


و تأسيسا على ما سبق نخلص إلى أن النص الشعري قيد الدرس قد تمثل أيما تمثل لخطاب تكسير البنية  في الشعر العربي الحديث، حيث استجمع كل مقومات هذا التيار الحداثي المعاصر ، فجاء البناء الهندسي فيه مكسرا للبنية الشعرية العربية التراثية ،  كما عددت القصيدة الروي و نوعت القافية، و سيقت المضامين مبنية على رؤيا الشاعر التشاؤمية، واعتمد الشاعر معجما تتأسس مفرداته على خرق المألوف و المعتاد في تركيبها، و متحت الصورة الشعرية مادتها من الإنزياح و الخيال التوليدي وخلق علاقات جديدة بين الكلمات بحسب السياق والرؤيا الشعرية، متوسلة بالرمز والإيحاء،أما الإيقاع فنظم على مبدأ التفعيلة بدل الوزن الشعري الخليلي ، و اعتمد على السطر الشعري والجملة الشعرية وغيرها، وكلها خصائص تمتح من معين تيار تكسير البنية و تجديد الرؤيا على حد سواء .

و ختاما لا يسعنا إلا أن نقول بأن الشاعر العراقي الكبير " بدر شاكر السياب" قد ترك بصمات خالدة على صفحات القصيدة العربية الحديثة بنية و لغة وأسلوبا و إيقاعا…ليضعنا أمام بنية شعرية متماسكة، تستلهم النفس الذاتي/الوجداني في تمتين الوحدة العضوية للنص الشعري ، و تشتغل دراميا على صوتين متداخلين : صوت الشاعر و صوت الأم ، بين اليأس والأمل..



_____________________________________________


https://documentcloud.adobe.com/link/track?uri=urn:aaid:scds:US:7cd280c0-6933-42ed-8690-7756f47f3160

المشاركات الشائعة

مشاركة مميزة

البعد الاجتماعي والنفسي في رواية اللص و الكلاب

  البعد الاجتماعي  والنفسي   في رواية اللص و الكلاب البعد النفسي في رواية اللص والكلاب يحضر البعد النفسي في المؤلف بشكل كبير حيث نجد تداخل...

المشاركات الشائعة

المشاركات الشائعة