يسعى هذا المنظور إلى دراسة نظام النص العام، و البحث عن وحداته، و المبادئ التي تنتظم بواسطتها هذه الوحدات. ذلك أن النص يتأسس على مجموعة من العلاقات الدلالية و التركيبية التي تمنحه صورة معينة. و تنجم بنية النص عن تأليف مجموعة من صيغ التنظيم التي يمكن الكشف عنها عبر محاور من مثل:
* بنية التأليف: يتتبع نجيب محفوظ في رواية ( اللص و الكلاب ) شخصية محورية تتمثل في شخصية "سعيد مهران" ، و يبتدئ هذا التتبع بلحظة خروج سعيد من السجن، لينتهي بلحظة استسلامه لرجال الشرطة بلا مبالاة، و بين لحظتي البداية و النهاية تشكلت الرواية من ثمانية عشر فصلا. إن ما يجمع بين فصول هذه الرواية ليس هو وحدة الشخصية المحورية فيها فحسب، بل أيضا تركيبة التقنيات الروائية المعتمدة فيها من : استباق و استرجاع و حذف و خلاصة ... مما أتاح للروائي التركيز على حبكة البطل، و كذلك استدعاء ما يسلط الضوء عليها، و يساعد المتلقي على تلقيها في شروط إيجابية. و هذا التعدد في توظيف التقنيات هو الذي يتيح للقارئ قراءة الرواية من وجهات متعددة و مختلفة: إذ يمكن قراءتها باعتبارها "رواية الشخصية"، كما يمكن قراءتها على أنها " رواية اجتماعية"، أو رواية استبطانية تستكنه الشفافية الداخلية... إلا أنها، في جميع الأحوال، رواية تعبر عن احتجاج الفئات الفقيرة داخل المجتمع المصري على مظاهر الفساد الاجتماعي من زيف اجتماعي و تنكر للمبادئ و الاستغلال و الانتهازية ...
* التنظيم الزمني: تترك رواية "اللص و الكلاب" في المتلقي انطباعا بكونها رواية اجتماعية تقدم نموذجا لمعاناة الفئات الفقيرة في المجتمع المصري، لكنك عندما تغوص في عبقرية نجيب محفوظ، و قدرته على التلاعب بالزمن، تقف على إبداعه في تحويل الزمن إلى أداة تشخص بقوة أسئلة الفرد في هذا الزمن القاهر الذي لا ينسجم معه. من هنا فإن الزمن الطبيعي لا يبدو كثير الأهمية في الرواية إذا ما قيس بالزمن النفسي الذي ركزت عليه الرواية و جعلته نافذة تطل من خلالها دقائق الأمور و جزئياتها. لقد تميز الروائي في هذا الجانب المتعلق بالزمن النفسي/ الشخصي، إذ يسكت عن السنوات الطويلة في عالم الواقع، و يقف عند التمفصلات الزمنية في حياة الشخصية ، حيث نكتشف أن الزمن النفسي مرتبط بالشخصية، لا بالزمن، إذ الذات تتخذ مكان الصدارة، و يفقد الزمن معناه الموضوعي ليصبح منسوجا في خيوط الحياة النفسية. و يتجلى هذا الزمن في رواية "اللص و الكلاب" في الأزمة التي يعيشها سعيد مهران و ما تسببه في نفسه من إحباط و خيبة و عزلة...، فبمجرد ما تخطى أزمة السجن، حتى وجد نفسه داخل دوامة أزمة جديدة هي أزمة الخيانة المركبة التي عاشها مع كل من (نبوية و عليش و رؤوف)، مما جعل العالم يبدو في عينيه متأزما، متدهورا، أجوف لا روح فيه، ذلك أن جميع القيم التي آمن بها و ضحى لأجلها قد لابسها التحول في ممارسات الخونة، فاقلبت نبوية من محبة إلى خائنة، وعليش من تابع إلى واش، و رؤوف من معلم لقيم الاشتراكية إلى انتهازي و ليبرالي فاسد.
* التنظيم المكاني: لا يعتمد نجيب محفوظ المكان، في روايته هاته، إطارا تزيينيا أو تكميليا، يؤثت به فضاء الرواية، بل يعتمده مكونا أساسيا يبوح بما يفكر فيه الروائي، و يتيح إمكانية الكشف عما تعانيه الشخصية من صنوف الوحدة و الاغتراب و المعاناة. و يمكن كشف هذا التنظيم في الرواية من خلال الفضاءات التالية:
السجن: المكان الذي تنفتح عليه الرواية، قضى فيه سعيد مهران أربع سنوات فقد خلالها حريته و عانى العزلة و الحصار و مرارة اكتشاف الخيانة. هو فضاء العقاب بدل أن يكون فضاء الإصلاح.
بيت الجنيدي: مكان إقامة الشيخ علي الجنيدي الزاهد المتصوف، صديق والد سعيد، يحمل هذا الفضاء لرواده إحساسا بالسكينة و الطمأنينة، هو مأوى لا ينغلق أبدا، يلوذ به سعيد حين تشتد الأزمات عليه، غير أنه لا يشعر فيه بالراحة طالما لم يحقق انتقامه، ذلك أن مذهبه مختلف عن مذهب الشيخ.
عطفة الصيرفي: فضاء يحيل سعيد على مفارقة شعورية، إذ فيه جزء من ذكرياته مع نبوية، أيام الحب و الوفاء، كما فيه ذكرى الاعتقال متلبسا بسرقة قضى إثرها عقوبة سجنية دامت أربع سنوات. لذلك تختلط اتجاهه مشاعر الرضى و مشاعر الامتعاض.
شقة نور: فضاء كان يحقق لسعيد جزءاً من توازنه النفسي في مرحلة تخلى عنه الجميع و آوته نور في بيت متواضع، يطل على المقابر. فرغم أنه كان يحس بالضيق و التبرم من عدم قدرته على التصرف بحرية مخافة إثارة انتباه الجيران إلا أنه كان يجد في المكان قدرا من إنسانية مفقودة خارجه.
مقهى طرزان: مكان التقائه بنور ماضيا و حاضرا، إضافة إلى كونه يمكنه من تلقي المعلومات عن أعدائه، و الأهم أنه في هذا المكان حصل على المسدس الذي يمكنه بواسطته الانتقام من الذين خانوه.
و تحضر في الرواية فضاءات مكانية أخرى تستمد أهميتها من مساهمتها في دينامية الأحداث، و يمكن أن نذكر من هذه الفضاءات ما يأتي:
·فيلا رؤوف علوان و ما تكشفه من صور الخيانة و الانتهازية.
· المقبرة و ما تحيل عليه من وحدة قاتلة و عزلة و اغتراب.