" وصية إلى : نفس زكية .. و روح نقية .. و عقل راجح ذكي .. و فؤاد مؤمن صفي.."

"أي بني :

اثبت على دأبك الصالح.. و اسبح في فيوضات فكرك الفاسح.. و انسج خيوط يومك الفالح .. هم في أعماق الفكرة.. و لا تجثو بين أحداق النبرة.. قيض لنفسك الهمم.. و انفض غبار الغشاوة و الحمم.. لا تسق عيناك مساق الفتن.. فتذق طعم الصبابة و المحن.. إنه وبيص حالك.. فاحذر و إلا امسيت هالك..

لا تنس وعدك المشهود.. و لا تنكث ميثاقك المعهود.. اثبت إذن على دأبك الصالح.. و اقتحم هوة كل طالح.. لا تمش بين الفلوات المقفرة.. بل الزم المسالك المقمرة.. اركب سفينة التقوى.. و ادرأ عن نفسك البلوى.. لا تزح ثوب النجاة عن قدك.. كن كأسلافك و سيرة جدك.. لا تكن أنت في ردك و صدك.. بل كن أنت مرآة لقلبك و حبك.. كن كما عهدت فيك رجلا جلدا صابرا.. و جلمودا مكافحا و مثابرا.. لا تأبهن بالدواهي و النوائب و الرزايا.. و لا تغرينك ذوات البهاء و العطايا.. كن للمثبطات متجاوزا.. و للعثرات قافزا.. و للمثالب مرمما.. و لغدك مصمما.. إياك أن تنتكص.. و احذر لنفسك أن تبتئس.. و لعقلك ان يبور.. و لقلبك أن يجور.. لا تخيب أملي و شموس غدي في يومك الذهبي.. كن ذاك الصنديد الأبي.. فأنت المستقبل و أنت الركن و أنت نشوة الحياة.. و أنت أريحية الروح السمحاء.. أنت صفاء السريرة.. و عبق الوجود.. لا تغفل تذكر أنك مجدود.. أخلص علمك و عملك لربك المعبود..

أي بني :

كبدي..فؤادي..نور مقلتي..لا تبلس بالقدر..فنعم الحال حالك..و بئست الحياة غير حياتك..احمدن ربك..و عد أهلك..و ارحم بالله من هلك قبلك..لا تغفو عيناك عن ربك تريد زهرة الحياة الدنيا و زينتها..بحبوحتها و بهجتها.. اسأل من ربك العفاف.. و ادعه الكفاف.. اسأله من دنياه عملا صالحا.. و صاحبة زهية سنية صالحة.. و اسأله من أخراه رضوانا و جنة و نعيما و خلدا عظيما..لا تتلهى نفسك عن أمورك و واجباتك..كن لوقتك ضابطا.. و لواجبك منظما.. و لنفسك مزكيا.. و لعصرك متقصيا.. لا تخبطن خبط عشواء.. و لا تخوضن معركة شعواء.. كن بين الحزبين مقتصدا.. و لا تكن مفرطا أو مكتسدا.. أنر طريقك بمشكاة عقلك.. و أخمد توهج نفسك و بركان نفسك.. بتلاوة وحي ربك.. و لذ إلى رحابه.. و ارتكن تحت ظلال جنابه.. فإنه سبحانه واسع المغفرة.. متقبل لكل معذرة.. لا يخذل عباده الصالحين.. و لا يردهم عن بابه خائبين..

"..قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعا. إنه هو الغفور الرحيم." صدق الله العظيم

-إلى ابني " محمد و أيوب " و إلى تلاميذي .. أهدي مقاصد هذه الوصية الروحانية الصافية.. المنبجسة من أعماق أوصال قيثارة الفؤاد .. بكل ما تحمله من معاني النصح و الإرشاد ..

- توقيع الأستاذ عزيز سشا

ثلاث منهجيات متكاملة في قراءة قصيدة غرفة الشاعر لعلي محمود طه

- مهارة كتابة موضوع إنشائي متكامل حول نص شعري " قصيدة غرفة الشاعر "لعلي محمود طه نموذجا -

*النموذج الأول :

في سياق التحولات التي عرفها الشعر العربي الحديث تماشيا مع الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عصفت بالمشرق العربي، تولد لدى نخبة متميزة من شعراء التجديد الوعي بأن وقوف شعراء البعث والإحياء عند حدود تقليد القدماء شكلا ومضمونا، من شأنه أن يسقط الشعر في مهاوي التصنع والتصنيع، ويعود به إلى أتون التكرار والجمود. واستجابة لهذا الوعي تشكلت عند هؤلاء الشعراء رؤية جديدة إلى الأشياء و إلى الإنسان و إلى الحياة، فانتظموا في عدة مدارس أدبية ، أبرزها مدرسة "أبولو" التي تبنت الاتجاه الرومانسي إطارا ومرجعا لنظم الشعر، من خلال الاحتفاء بالذات والوجدان، والتطلع إلى عالم آخر من عوالم الطبيعة أو الخيال أو الموت... و يعد علي محمود طه، من أبرز شعراء هذه المدرسة، بحيث جاء شعره تجسيدا لتأملاته الخاصة عن الطبيعة والوجود، إلى جانب شعراء آخرين مثل أحمد زكي أبو شادي، وإبراهيم ناجي...فإلى أي حد حافظت القصيدة موضوع التحليل على هذا النموذج ؟ وما مدى تمثيليتها لخصائص و مقومات تيار سؤال الذات بشكل عام ؟
لعل الملاحظة البصرية الأولية للنص تكشف على أنه يبدو مخالفا لما ألفناه في القصيدة العمودية التقليدية على مستوى الشكل الهندسي الخارجي للنص ،ذلك أن قصيدة "غرفة الشاعر" اعتمدت نظام المقاطع، ونوعت في الروي (الكاف، القاف، الباء)... وهي بدون شك، ملامح تجديدية في الشعر العربي الحديث.
أما عنوان النص فيوحي دلاليا بمعان عديدة، حيث تحيل لفظة "غرفة"  إلى مكان خاص  يوحي بالعزلة والخلود إلى ما يخالج الذات. و هذا ما جعل هذا الفضاء المكاني مرتبط بذات الشاعر بقرينة الإضافة، مما يوحي بأن الشاعر سيعكس حالة أو لحظة زمنية عاشها في غرفته، مصورا ما ينتابه من مشاعر وأحاسيس وجدانية. وهذا دليل على أن القصيدة تدخل فعلا ضمن تجربة سؤال الذات.
إن قراءة النص قراءة متأنية تكشف عن أن الشاعر  يصور حالته النفسية ونظرته للحياة وموقفه منها، حيث استهل قصيدته بتصوير الملامح النفسية والجسمية التي أصبح عليها بفعل التفكير والسهاد.و هي حالة سيتولد عنها استغراق الشاعر في همومه وأفكاره في انقطاع تام عن العالم الخارجي، ولا ريب أن هذا الانقطاع عن العالم الخارجي ما هو إلا مظهر من مظاهر الكآبة والأسى التي جناها الشاعر من أفكاره وهمومه،و في الختام  يقتنع الشاعر بأن الدنيا الدنية  فانية لا محالة، وهي لا تستحق كل هذه المعاناة، و في المقابل يدعو نفسه إلى الخلود إلى النوم والراحة تحت فراش وثير..
وبناء عليه و في ضوء هذه المضامين التي تسم تجربة الشاعر ، سنقف على جملة من المؤشرات النصية، منها: تعدد ضمائر المخاطب في النص : (الكئيب، غارقا، رأسك، جفونك، أذبلت.. لست...)،  وإن كانت كلها حقيقة دالة على نفسية الشاعر، مما أفرز نوعا من التطابق الكلي بين المتكلم في النص ومخاطبه. أما المعجم فقد جاء معبرا عن التيار الذاتي الرومانسي، حيث زاوج الشاعر بين ألفاظ وعبارات دالة على الذات الشاعرة: ( الكئيب، الحزين، السهد، الأسى، ارتعاش، شجونك، أحزانك...)، وألفاظ دالة على الطبيعة كملاذ للخلاص و الانعتاق من رتابة الحياة الإنسانية و بؤسها :  (الليل، حر، الرعد، الإبراق، الدجى، نهار، الخريف...)، كما يحضر الحقل الدال على الفضاء المكاني " الغرفة " أيضا: ( السكون، السراج، ضوء شاحب، الموقد، الصمت...)، ولا يخفى علينا من خلال هذه الحقول الدلالية أن نؤكد الحضور القوي لتيمة " الحزن " الشيء الذي يحيل  أنها عنصر مهيمن يعتمل  ذاتية الشاعر، في توحد تام مع عناصر الطبيعة وما يرتبط بها من أزمنة وأمكنة مثل : (الليل، الحزن والكآبة، عتمة الغرفة).
و هكذا و لخدمة هذه المضامين الشعرية انتقى "علي محمود طه" صورا شعرية موغلة في التخييل، عكس الصور التقليدية التي نلفيها في الشعر القديم، حيث ركز على مبدأ  أنسنة الطبيعة و تشخيصها بأفعال و سلوكات الكائن الحي من قبيل قوله مثلا: (قد تمشى خلال غرفتك الصمت...) الواردة في البيت السادس، والمجاز في الييت الثالث (يد تمسك اليراع...) حيث أطلق الكل وأراد الجزء، فالأنامل هي التي تمسك القلم، (ليس يحنو الدجى عليك...) في البيت 12، إذ شبه الشاعر الدجى بإنسان له أحاسيس ومشاعر فحذف المشبه به ورمز إليه بالحنو،... وبالرجوع إلى المقطع الأول، بشكل كلي نتكشف أنه مشهد يصور الحالة النفسية الحزينة لشاعرنا علي محمود طه.
أما من حيث البنية الأسلوبية فقد جمع الشاعر بين الأسلوبين الخبري والإنشائي، فالأول استعان به للإخبار عن حالته النفسية ومعاناته، مثل (مسلما رأسك / يد تمسك اليراع / أذبلت جفونك...)، أما الثاني فيرتبط بانفعالات الشاعر الذاتية و رغبته في البوح و الصراخ ،و من ذلك قوله: (أيها الشاعر الكئيب، آه يا شاعري، هلا فرغت من أحزانك ؟، فقم الآن...).
وبالعودة إلى إيقاع القصيدة الخارجي، نجد الشاعر قد  بناه على وزن بحر الخفيف (فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن 2)،وقد التزم فيه الشاعر بالعروض الصحيحة والضرب مثلها، كما نوع في القافية بما يتماشى ودفقته الشعورية وتجربته الشعرية، فهي قافية مطلقة حينا، ومقيدة حينا آخر، في محاولة للتحرر من الشكل التقليدي، وتصوير شدة المعاناة، ساعد على ذلك تكراره لبعض الحروف بعينها ( روي القصيدة، اللام، السين..) على المستوى الداخلي للقصيدة، وهي كلها حروف تمتح من معين الكآبة،، كما تكررت كلمات بالترادف (شجونك، أحزانك / الصمت، السكون / ناضب، ذابل...)، وتوازت الصيغ الصرفية، مثل: (جبين،أنين / طروب، خطوب...)وبعض الصيغ التركيبية ( مازلت غارقا في شجونك، مازلت سادرا في مكانك).
 ومن المؤكد أن كلا من التكرار والتوازي، قد أديا في هذه القصيدة، فضلا عن الوظيفة الجمالية، وظيفة تعبيرية، حيث تصوير وتأكيد التوتر النفسي للشاعر داخل الغرفة رفقة اليراع الشعري.
و صفوة القول، يمكن اعتبار هذه القصيدة من النماذج الشعرية التي تعكس بعمق مضامين خطاب سؤال الذات لدى الشاعر " علي محمود طه "، حيث أحدث فيها انزياحا جزئيا و خروج واضحا عن أصول القصيدة الكلاسيكية، شكلا ومضمونا، ووصولا إلى المعجم اللغوي الذي يغترف من مألوف الألفاظ ومأثورها، والصور الشعرية التي نزعت نحو الخيال والأنسنة، الشيء الذي يؤكد بحق ، ريادة جماعة "أبولو"، تيار الشاعر الذي ينتمي إليه ، في ترسيخ التيار الذاتي الرومانسي في مساق  الشعر العربي الحديث.

*النموذج الثاني :


يمثل التيار الذاتي نقطة تحول في مسار القصيدة العربية انطلاقا من الاحتكاك بالثقافات الاجنبية واستعمال لغة معقدة الى الاعتماد على احاسيس الذات الشاعرة والوجدان حيث بدأ الشاعر بالهروب من عالم الناس الى احضان الطبيعة باعتبارها عالم الصفاء والنقاء والخلوص ويعد ""علي محمود طه"" واحدا من الشعراء الدين كان لهم الفضل في بزوغ الاتجاه الرومانسي في الشعر العربي الحديث وقد تبوأ هده المكانة السامية من خلال انخراطه في مدرسة أبولو التي ارست قواعد الاتجاه الذاتي ونظرا لمجموعة من السمات الفنية والإبداعية التي اجتمعت في شخصيته فضلا عن تناقضات بين مشاعر الحرمان والحزن والكآبة والانغماس في متاع الحياة غارقا في الفكر منهمكا في كتابة الشعر في توحد تام مع اشجانه وأحزانه وهو يعيش حالة ارق وسهاد.. فالى اي حد كان هذا الشاعر ممثلا للتيار الذاتي ؟  و ما المستجدات التي جاء بها في سياق هدا التيار  ؟ و ما حدود تجاوزه لعمود الشعر التقليدي ؟ أسئلة و أخرى سنحاول الإجابة عنها في مساق هذه القراءة التحليلية للنص قيد الدرس .
إن المتأمل لهده القصيدة يدرك مند الوهلة الاولى أن شكلها يتباين مع القصيدة العربية القديمة حيث نجدها  اعتمدت ظاهرة التدوير ثم تنويع القافية والروي بالإضافة الى تنويع المقاطع الشعرية والفصل بينها  ينجيمات كما ان قراءة البيت الاول من القصيدة تفضي بنا الى افتراض مفاده ان الشاعر قد تجاوز المقدمة الاستهلالية نظرا لكابته وانغماسه في غرفته وحيدا غارقا في كتابة الشعر . وقد استعان علي محمود طه بمعجم شعري تتميز الفاظه بالسهولة والسلاسة  للتعبير عن معاناته حيث استعمل جملة من العبارات الدالة على الحزن والكآبة كالشجن  -الشاعر الكئيب -فم نابض – مسلما راسك الحزين... كل هده المفاهيم تقودنا الى تصور مفاده ان الشاعر منعزل بذاته في فضاء يغلب عليه السكون والأرق والشجن وادا انتقلنا الى دراسة الصورة الشعرية لهده القصيدة سنجدها تبرز احاسيس الذات الشاعرة ودلك من خلال  قيامها على  مبدأ التجسيد والتشخيص والانسنة  .. وبانتقالنا في الاخير الى دراسة الايقاع الشعري الداخلي سنجده يتحقق من خلال طبيعة الاصوات وأشكال التكرار واستعمال اصوات مهموسة مع لحظات  السكون والأنين والحزن والتأمل فجاءت مرآة تترجم مشاعر الذات الشاعرة وأحاسيسها .
وبناءا على ماسبق نخلص الى ان الشاعر علي محمود طه  يعكس لنا في القصيدة قيد الدرس حالته النفسية الموصوفة بالكآبة والحزن من جراء كثرة التفكير وقلة النوم ورؤيته للحياة وما يحكمها من زيف ومجون وخديعة لامكان فيها للشاعر الموهوب وهكذا يتضح لنا سبب انطوائه وعزلته في غرفته  و للكشف عن دلك وظف الشاعر ضمير المخاطب الذي يكشف عن شخصيته المضطربة و المتأرجحة بين مشاعر الحرمان والشجن و الحيرة و بين نوازعه وأحلامه و قيمه .. كما استثمر معجما تهيمن عليه تيمة الحزن اما لغته فتتسم بالوضوح وسلاسة الالفاظ على غرار المعجم الاحيائي التقليدي الموصوف بصعوبة الألفاظ وغرابتها في بعض إلا حيان وأيضا استعماله لصورة شعرية يعتمد فيها طابع التشخيص والانسنة لتشخيص عناصر الطبيعة ويبقى الاساس في هده القصيدة هو توظيف الشاعر لمبدأ التوحد والحلول الذي يبرز من خلال توحد ذاته وامتزاج تجربته  النفسية مع الفضاء المكاني الغرفة بكل ما تحمله من دلالات و معان وكدا العامل الزمني الليل بكل مايحمله من سكون وصمت وخوف وقلق يؤجج مشاعره وحالته .
كما سبق و أن استهل الشاعر نصه بأسلوب إنشائي طلبي ينم عن حالته الكئيبة المنطوية على الاغتراب و الضياع . وختم القصيدة بأسلوب خبري تقريري جاء معللا لسبب انعزاله وانفراده بذاته.  وهكذا  اجدني اتفق مع الشاعر في كون التيار الذاتي قد تبنى مشاعر وأحاسيس الذات الشاعرة عكس التيار الإحيائي الموغل في المحاكاة و التقليد .
ولعل قدرة الشاعر قد اثرت في جيل الشعراء الذين جاؤوا بعده إذ غير مزاج عصره وادخل الى الشعر نوعا من الهوس والعاطفة المتأججة مما جعل شعره ينساب تلقائيا متناغما وكان من اقوى الاصوات الشعرية التي سمعت في مصر وهي المدرسة التي من أبرز سماتها ومميزاتها الخروج بالذات الشاعرة من عالم الألفة والجماعة والتآزر الى عالم الوحدة و الطبيعة و الهدوء .

*النموذج الثالث : 



عرف الشعر العربي الحديث في بداية عصر النهضة تحولا كبيرا ، نتيجة عوامل تاريخية واجتماعية  تمثلت في صعود الطبقة البرجوازية والانفتاح على الثقافات الأجنبية والتشبع بالفكر الحر نتيجة ظهور مجموعة من الشعراء، أتاحت لهم ظروف العصر الاطلاع العميق على التراث وفهمه والانفتاح علي  الثقافة الغربية ،والاستفادة من إنتاجات كتير من  أدبائها ،غير أن الرغبة في استعادة أمجاد العرب ، ولدت لدى نخبة متميزة من شعراء التجديد الوعي بأن وقوف شعراء البعث والإحياء عند حدود النموذج القديم من شأنه أن يسقط الشعر في مهاوي التصنع والتصنيع ،ويعود به إلى أتون الإجترار والجمود . واستجابة لهذا الوعي تشكلت عند هؤلاء الشعراء رؤية جديدة إلى الأشياء وإلى الإنسان وإلى الحياة فانتظموا في عدة مدارس أدبية ، أبرزها مدرسة " أبولو" التي تبنت الاتجاه الرومانسي إطارا ومرجعا لنظم الشعر، من خلال الاحتفاء بالذات والوجدان . و التطلع الى عالم عوالم الطبيعة و الخيال . ويعد "علي محمود طه  " أبرز شعراء هذه المدرسة ، بحيث جاء شعره تجسيدا لتأملاته  الخاصة عن الطبيعة والوجود .إلى جانب شعراء أخرين متل أحمد زكي أبو شادي و إبراهيم ناجي وغيرهم. فإلى  أي حد حافظت القصيدة موضوع الدراسة والتحليل على هذ النموذج ؟ وما مدى تمثيلها لخصائص ومقومات تيار سؤال الذات بشكل عام ؟
قبل  الإجابة عن هذه الأسئلة وانطلاقا من ملاحظتنا البصرية للنص نتكشف أنه يبدو مخالفا لما ألفناه في القصيدة العمودية التقليدية على مستوى الشكل الهندسي الخارجي ذلك أن قصيدة "غرفة الشاعر " اعتمدت نطام المقاطع ، ونوعت القافية والروي " الكاف.القاف.الباء " وهي بدون شك .ملامح تجديدية في الشعر العربي الحديث. أما عنوان النص فيوحي دلاليا بمعان عديدة و متباينة ، فلفظة "غرفة" تحيل على مكان يوحي بالإنعزال و المحدودية و الضيق و الانفصال عن العالم الخارجي والخلود إلى ما يخالج الذات . وهذا ما جعل  هذا الفضاء المكاني مرتبط بالشاعر بقرينة الإضافة ، الشيء  الذي يوحي بأن الشاعر سيعيش لحظة زمنية في غرفته مصورا مشاعره وأحاسيسه الوجدانية من جراء رفضه لعالم الناس . وهذا دليل على أن القصيدة تدخل فعلا ضمن تجربة سؤال الذات.
بقراء تنا المتأملة للنص نجد أن صاحبه يعكس حالته النفسية ونظرته للحياة وموقفه منها ،حيت استهل قصيدته بصورة الملامح النفسية والجسمية التي أصبح عليها بفعل التفكير والسهاد ، وهي حالة سيتولد عنها استغراق الشاعر في همومه وأفكاره في انقطاع تام عن العالم الخارجي . ولاريب أن هذا الانقطاع عن العالم الخارجي ما هو إلى مظهر من مظاهر الكأبة والأسى التي جناها الشاعر من أفكاره وهمومه وفي المقابل يدعو نفسه إلى الخلود إلى النوم والراحة تحت فراش وثير...
في ضوء هذه المضامين التي تسم تجربة الشاعر  ، سنقف على جملة من المؤشرات منها : تعدد ضمائر المخاطب في النص متل : رأسك .جفونك .أذبلت. اغنم... وغيرها وإن كانت كلها حقيقة دالة على نفسية الشاعر  . مما افرز نوعا من التطابق الكلي بين المتكلم في النص ومخاطبه. وبالنظر إلى المعجم سنجده جاء معبرا عن التيار الذاتي الرومانسي بأدق النعابير   حيت زاوج بين الألفاظ و العبارات الدالة على الذات الشاعرة متل : الكئيب .الحزين. السهد .الأسى .ارتعاش .شجونك .أحزانك إلخ  وألفاظ دالة على الطبيعة متل : الليل .الرعد .الإبراق .الدجى .النهار .الخريف...وغيرها كما يحظر الحقل الدال على الفضاء المكاني أي الغرفة متل : الكون .السراج .ضوء ساحب. الموقد .الصمت. .وغيرها من الكلمات.
- و لا يخفى علينا من خلال هذه الحقول الدلالية أن نؤكد الحضور القوي لتيمة " الحزن " الشيء الذي يحيل على أنها عنصر مهيمن يعتمل ذاتية الشاعر في توحد تام مع عناصر الطبيعة وما يرتبط بها من أزمنة وأمكنة مثل : الليل ، الغرفة ..
وهكذا ولخدمة هذه المضامين الشعرية انتقى "على محمود طه " لنفسه صورا شعرية مغرقة في التخييل ،عكس الصور التقليدية التي نلفيها في الشعر القديم .حيت ركز على مبدأ  أنسنة الطبيعة وتشخيصها بأفعال و سلوكات الكائن الحي و ذلك في قوله " قد تمشى خلال غرفتك الصمت ...ودب السكون في الأعماق " الواردة في البيت السادس من القصيدة و المجاز في البيت الثالث ويد تمسك اليراع ، إلى آخر البيت لأن الأنامل هي التي تمسك القلم ثم الإستعارة المكنية في البيت 11 " ليس يحنو الدجى عليك إلى آخر البيت " حيث شبه الشاعر الدجى بإنسان له أحاسيس  ومشاعر فحذف المشبه به الانسان ورمز إليه بشيء من لوازمه " يحنو "
بالإضافة إلى البنية  الأسلوبية حيث جمع الشاعر بين الأسلوبين الخبري والإنشائي فالأول استعان به في الإخبار عن حالته النفسية ومعاناته متل : مسلما رأسك الحزين ، ويد تمسك اليراع ، ذابلات جفونك ...  
أما الثاني " الأسلوب الانشائي " فيرتبط بانفعالات الشاعر الذاتية ورغبته في البوح والصراخ متل قوله : أيها الشاعر الكئيب .. آه يا شاعري...هلا فرغت من أحزانك ؟ ..فقم الآن .. وغيرها من الأبيات .
وقد نظمت هذه القصيدة قيد الدرس على وزن بحر الخفيف فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن وقد التزم فيه الشاعر بالعروض الصحيحة والضرب كما نوع في القافية بما يتماشى وتجربته الشعرية ، فهي قافية مطلقة حينا ومقيدة حينا آخر. في محاولة منه للتحرر من الشكل التقليدي و تصوير شدة المعاناة و قد ساعد على ذلك تكراره لبعض الحروف متل : اللام والسين والكاف... وعلى مستوى الإيقاع الداخلي للقصيدة نلفي حروف الهمس التي تمتح من معين الكآبة و تتناغم مع السكون و التأمل .. كما تكررت بعض الكلمات بالترادف مثل : شجونك  / أحزانك / الصمت / السكون / ناضب / ذابل ....وتوازت الصيغ الصرفية مثل : جبينك- أنينك / طروب - خطوب....وبعض الصيغ التركيبية : مازلت غارقآ في شجونك - مازلت سادرا في مكانك..
و هكذا نتبين أن كلا من التكرار والتوازي قد أديا في هذه القصيدة وظيفة إيقاعية تزيينية تعبيرية و تأكيدية في آن واحد الشيء الذي أضفى على القصيدة طابعا موسيقيا رائعا و منغما عجيبا ينساب انسيابا رائقا مع حنايا الذات و يذوب في شفافيتها و صدقها و خلوصها ..

وختاما يمكن اعتبار هذه القصيدة من النماذج الشعرية التي تعكس بعمق مضامين خطاب سؤال الذات عند الشاعر"علي محمود طه" الذي تحدث عن معاناة ذاتية تأججت مع سكون الليل و ظلمته المعتمة ، مؤكدا قدرته في الثورة ضد وضعه المزري الذي يؤذن بقطيعة كلية مع العالم الخارجي عالم الختل و النفاق و الخداع ... و لإيصال هذه المعاني إلى المتلقي  استعان صاحب النص بمعجم خاص تتميز ألفاظه بالسهولة و الصدق و الليونة و الجنوح إلى الابتذال خلافا للتيار الكلاسيكي الذي كان يستعين بالألفاظ المستغلقة و الكلمات القوية الغريبة و بلغة جزلة.. كما وظف صورا فنية تتسم بالإغراق في الخيال و التوليد و ترتكز على التشخيص و الأنسنة..و لعل هذه الميزة هي ما يميز الشعراء الرومانسيين و يجعلهم متفردين عن غيرهم من الشعراء . و إيقاعيا نجد القصيدة قد نوعت في حرف الروي الذى تراوح بين الباء و القاف والكاف . كما نظمت على وزن الخفيف وهو من الأوزان الخليلية التي تتلاءم و نفسية الشاعر الكئبية والمتمردة ، فضلا عن توظيفه ظاهرة التكرار لإيصال التجربة الوجدانية إلى المتلقي و تأكيد معالمها فتكررت في القصيدة حروف عدة وألفاظ جمة وهي في هذا المساق تؤدي وظيفة إيقاعية تزينبة وتأكيدية في الآن نفسه .
ولعل قدرة الشاعر قد أثرت في جيل الشعراء الذين جاؤوا بعده إذ غير مزاج عصره وأدخل الى الشعر نوعا من الهوس والعاطفة المتأججة مما جعل شعره ينساب تلقائيا بتناغم عجيب و بديع شكلا و مضمونا ، وكان من اقوى الاصوات الشعرية التي سمعت في مصر وهي المدرسة التي من أبرز سماتها ومميزاتها الخروج بالذات الشاعرة من عالم الألفة والجماعة والتآزر الى عالم الوحدة و الطبيعة و الهدوء .

-بعد التصحيح و التنقيح تم توقيع هذه المواضيع الإنشائية المتكاملة من طرف تلاميذ السنة الثانية باك آداب 1 بالثانوية التأهيلية محمد السادس بالوردزاغ -

توزيع الحصص الدراسية وأثره على التحصيل الدراسي للتلميذ



قد يجازف بعض المربين في اعتقادهم أن رهان التربية والتعليم ينحصر فحسب في مجرد مراعاة الجانب العقلي من شخصية المتعلم، وقول كهذا يمكن أن يمسي بموجبه الهدف التربوي مصطبغا بصبغة سطحية مهترئة، تجعله مركوزا فقط في دائرة ضيقة، تقتصر على مجرد الاهتمام بعملية شحن عقول المتعلمين بمختلف المعارف والمعلومات المستمدة إما من داخل المعطيات التي يمنحها الكتاب المدرسي أو من خارجه في ضوء الموسوعة العلمية والثقافية للمدرس.
       لكن المربي الحاذق الذي ينظر بعين واعية وبمنظار تربوي متبصر لا يمكنه إلا أن يمحق هذه النظرة الكلاسيكية المترهلة، وفي المقابل يمكنه أن يهتدي إلى نظرة أشمل وأعمق تراعي إضافة إلى الجانب العقلي، جميع الجوانب التي تسهم من قريب أو بعيد في تشكيل شخصية المتعلم وتنشئتها في ظل الوسط الدراسي الذي لا يمكن البتة أن ينفصم في واقعه التلميذ عما يحدد أبعاد شخصيته الفيزيولوجية، والسيكولوجية، والسوسيولوجية.
وحيث إن الوسط الدراسي يحتل الحيز الأكبر من حياة المتعلمين، كان من المنطق أن يتسنم البؤرة الأكثر تمركزا وتأثيرا في شخصياتهم، وبحكم أن هذا الوسط كما يبدو تتحكم في تفعيله جملة من العناصر والبنيات من قبيل : الأستاذ، موظفو الإدارة، البرامج الدراسية، محيط القسم، مرافق المؤسسة، التوقيت الزمني ، طبيعة توزيع الحصص الدراسية...إلخ، كان من الواجب علينا في هذا المضمار التربوي، أن نؤطر طبيعة الموضوع داخل عنصر من هذه العناصر الفاعلة في سيرورة العملية التعليمية. من هنا كان اقتراح موضوع " توزيع الحصص الدراسية وأثره على التحصيل الدراسي للتلميذ" .

لا جرم إذن، أن أي توزيع عشوائي غير مقنن بمناهج ضابطة للحصص الدراسية على مدار الأسبوع من شأنه أن ينعكس سلبا على سيكولوجية المتعلم، ويضعف من قابلية تركيزه وانتباهه أثناء حصة الدرس.
       وكما هو معلوم أن المواد الدراسية يتمايز بعضها عن بعض، كما تتمايز أيضا محتوياتها وموضوعاتها من مادة لأخرى، وكل مادة إنما تكتسي قيمتها وتتسنم درجة أهميتها انطلاقا من طبيعة الشعبة التي ينضوي المتعلم تحت سقفها، فغالبا ما يراعي كل متعلم في شعبته تقسيما ثنائيا للمواد في إطار مجموعتين، فهناك مواد أساسية رئيسية وأخرى ثانوية أو تكميلية، وكثيرا ما نجد المتعلم يكرس جل طاقاته ويستنفذ قدراته رغبة أكيدة منه في دراسة المواد الرئيسية والسعي في طلبها لوحدها باعتبارها الجوهر عنده، في حين نجده يصرف النظر عن المواد الثانوية أو لا يكاد يعبأ بها إلا نادرا.
       وحقيقة الأمرأن هذه المسألة قد تبدو في ظاهرها عفوية وتلقائية إذا ما اعتبرنا طبيعة التوجه الدراسي الذي يحتذيه المتعلم، كما قد يعتقد البعض أنها راجعة إلى هزالة معامل كل مادة من هذه المواد الثانوية ليس إلا. ولكنني أرى أن عين الصواب أنها منبجسة –فيما أرجح- عن سوء تدبير في التخطيط وقصور في النمذجة المنتقاة في عملية التوزيع (توزيع الحصص) لدى الفاعلين والمسؤولين العاملين على برمجة الحصص الدراسية وتوزيعها زمنيا دونما أدنى التفات إلى حالة المتعلم السيكولوجية والبيولوجية (الصحية)، هل هو متأهب فعلا، يملك من القابلية والنشاط ما يجعله يقظا ومنتبها أثناء حصة الدرس ؟  أم هو على العكس من ذلك يخيم عليه التراخي والخمول؟
       من منظوري الخاص، أعتقد اعتقادا لا يدع للشك مجالا عندي، أن المواد الأساسية في إطار توزيعها عبر الحصص الزمنية، باعتبار نوعية الشعبة التي ينتمي إليها المتعلم، علمية كانت أم أدبية أم تقنية أم غيرها، يجب أن تبرمج في الحصص الأولى من الأسبوع، كما يجب أن تبرمج أساسا في الحصص الصباحية على اعتبار أن قوة قابلية التلقي وسرعة البديهة والإستيعاب لدى المتعلمين، تكون في هذه الفترة الزمنية في أوجها وقمة زهوها، مالم تعكر صفوها بعض الدواعي الطارئة، وهي دواع يمكن أن نعتدها استثنائية قلما قد تعترض المتعلم ، كأن يكون الأرق قد أعاق حالة النوم الطبيعي لديه ، ويلاحظ هذا بشكل كبير عند تلاميذ المدن الكبرى بفعل الضجيج الليلي والضوضاء الذي تحدثه وسائل النقل أو غيرها، فينعكس ذلك سلبا عليه على امتداد اليوم كله، أو أن يلج الفصل الدراسي غير متناول فطوره ، وغيرها دواع طارئة لا يمكن حصرها في هذا الصدد لتنوعها وتعددها ، بيد أنه يمكن أخذها بعين الاعتبار عند النزر القليل من التلاميذ في معظم الأحيان.
       وبخلاف الحصص الدراسية الصباحية ، تعرف الحصص "مابعد الزوالية" نوعا من التلاشي النسبي ، حيث تنطبع حالة المتعلم السيكولوجية والفيزيولوجية في شموليتها بين المتعلمين بنوع من الإرتخاء والكسل وعدم الانخراط في ثنايا الدرس لاسيما الحصة الأولى حيث يكون المتعلم قد تناول قبيلها بقليل وجبة الغذاء وأيضا في الحصة الأخيرة من اليوم حيث يبدو التعب واضحا وملموسا.
       وفي المقابل من ذلك-من وجهة مقترحة –يمكن تخصيص هذه الحصص "مابعد الزوالية" من الحصص الدراسية الأخرى المتبقية للمواد الثانوية فمن جهة يكون المتعلم قد استوعب جيدا - بحسب طاقته ورغبته - مواده الأساسية وفرغ منها جزئيا خلال نصف يوم دون أن تكسر عليه مزاج اهتمامه بالمواد المتبقية ( المواد الثانوية ) ، لأن أي مزاوجة – في نظري - تتداخل فيها المواد الأساسية زمنيا بالمواد الثانوية في الآن نفسه - إما في النصف الأول أو الثاني من اليوم - من شأنه أن يقصي عاملا :  " الإهتمام والعناية "  لدى المتعلم ، بالمواد الثانوية ويرجحه لفائدة المواد الأساسية التي تضحي شغله الشاغل باعتبارها الجوهر و باعتبار ما تتطلبه من مجهود وإعداد قبلي مكثف أيضا . ومن جهة ثانية يكون الوقت منفسحا أمام المتعلم لدراسة المواد الثانوية في هدوء تام دون أن ينشغل بالمواد الأساسية و متطلباتها التي من المفترض – في إطار تداخلها زمنيا بسابقتها - أن تكون تالية لها و ذلك إما في فترة الصباح أو بعد الزوال.

* توقيع الأستاذ عزيز سشا *

-البعد الانفعالي في شخصية التلميذ / المراهق :


-البعد الانفعالي في شخصية التلميذ / المراهق :
       يقصد بالانفعال في حقله اللغوي تجنيد العضوية ووضعها في حركة غير عادية. وفي ميدان علم النفس نجد أن الانفعال عبارة عن استجابة شديدة وعامة لموقف غير منتظر مصحوبة بحالة وجدانية تكون إما سارة مفرحة أو ضارة مؤلمة، ولما كان الانفعال كذلك فإنه يمكن اعتباره "حالة فسيولوجية ووجدانية تخرج عن السيطرة والمراقبة العقلية للفرد. والانفعال بهذا الشكل غير العاطفة التي تشكل بدورها حالة وجدانية دائمة دواما نسبيا"[1].
       إن الانفعال وثيق الصلة بحياة الفرد ذكرا كان أم أنثى ويشكل مظهرا من مظاهر الحياة والوجود ، وهو مرتبط غاية الارتباط بالجانب النفسي والفسيولوجي للكائن البشري، والمراهق في هذا المساق لا يشد عن غيره، إنما ما يجعل حساسيته الانفعالية تتقد بشدة وبثورة عنيفة هو عدم توفير الشروط اللازمة التي من شأنها أن تحقق وتؤمن له مجموعة من الحاجات التي لابد منها لإيجاد التوازن النفسي الضروري لقيام حياته في صورة هادئة ومن ثمة فإنه يظهر انفعالا يتسم في كثير من الأحيان بنوع من الفجاجة وعدم النضج ومرجع ذلك لتلك الظروف النمائية التطورية التي يمر بها[2].
       فنتيجة للتغيرات الجسمية والفسيولوجية في أوائل المراهقة تصبح انفعالات المراهق في الغالب شديدة وعنيفة " إذ يثور بسرعة وقوة ويفرح بسرعة وقوة وقد تشتد انفعالاته حتى يبدو متهورا أو مترددا، ويكون لديه صراع نفسي وتأرجح في انفعالاته، إذ تتأرجح بين الغضب والهدوء والعناد والاستسلام والقلق والارتياح، والسرور والكآبة، والدافع الجنسي يزيد في الغالب من ضيق المراهق وقلقه. وهناك ناحية أخرى تسبب ضيقه وقلقه، وتتلخص في أن نموه الجسمي السريع يجعل الكبار يتوقعون منه سلوكا ناضجا، ولكنه يكون ما زال غير ناضج عقليا واجتماعيا فتظل في سلوكه بعض مظاهر سلوك الأطفال، وينقده الكبار في هذا فيتضايق كثيرا ويصبح حساسا للنقد"[3].
       من هنا فإن معظم المثيرات الانفعالية التي يتعرض لها المراهق ترتبط بعدم تقديره أو الخدش في كينونته ومعارضة استقلاله. فازدراؤه وتوبيخه أو توجيه اللوم له وانتقاده أمام زملائه أو أصدقائه، كلها عوامل تعد بمثابة مثيرات تفقد المراهق صوابه.
       ومما يزيد أيضا في تثوير انفعالات المراهق وتعميق آثارها أن المراهقة هي مرحلة "يشتد فيها اهتمام الفرد بذاته يحللها ويستبطن كوامنها، فيصرفه هذا عن ملاحظة الواقع وإدراكه. بل إن هذا الاستبطان وتأمل الذات قد يفضيان بالمراهق إلى خلق عالم من الهوام Fantasme يسكنه ويعيش فيه وفق رغباته الخاصة. إن النمو العقلي الذي يتميز به المراهق في هذه المرحلة يساعد على تنظيم الفضاء الزماني له ويجعل التأمل الذاتي ممكنا وخصبا. ينضاف إلى هذا الحرمان الذي يعاني منه المراهق، يغذي هذا التأمل فيجعله ينطلق في إيجاد وخلق أحيانا لنماذج حياتية أخرى يكون بديلا لواقعه المعيش. فالمراهق إذا تعرض للإحباط المتكرر ينشأ على الاعتقاد بأن الحياة مليئة بالمتاعب المهيأة له وحده. وأن جميع أفراد المجتمع له بالمرصاد لتقصي رغباته والحيلولة دون إشباعها، فينشأ لديه الاعتقاد بأن المجتمع ضده وأنه لا أحد من الناس يهتم به وبرغباته . فإذا لم يجد في مثل هذه الأحوال صدرا رحبا يفهم شكاويه ويوجهها، فإنه قد ينحرف"[4].
       إن أبجدية التعامل مع المراهق تقتضي فهم حاجاته النمائية في هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها لذلك كان لزاما على المربي أن يدرك هذا الجانب جيدا في شخصية المراهق لتمكينه من تحقيق الاحساس والشعور بالهوية والاستقلالية والاعتراف بالأنا والوجود الذاتي، فهذا هو المطمح الأساس الذي ينشده المراهق في هذه المرحلة من العمر، وبدون تحقيقه بوسائل تربوية مناسبة يظل المراهقون في صراع محتدم مع من لم يحقق لهم ذلك. والطريقة المثلى لهذا الرهان تستوجب وضع الثقة فيهم ومنحهم المسؤولية وتكليفهم بمختلف المهام وجعلهم مصدر القوانين والتشريعات المدرسية حتى يقومون من تلقاء أنفسهم باحترامها والحفاظ عليها، لأنهم هم مصدرها وليس الآخرون "إن مجرد مناداة المراهق الثائر والعنيف باسمه منذ اللقاء الأول به في الدرس يطفئ فورة غضبه ويحقق له طموحه في الاعتراف له بالوجود والكينونة. إن هذه المناداة بالاسم اعتراف صريح من قبل المدرس بوجوده وتميزه قد يساهم في تحبيب المدرس والمادة والمدرسة إليه، لأنه حقق له هذا المطلب الذي ينشده والذي لا يكلف المدرس في الواقع شيئا وإنما يحتاج الأمر فقط إلى المعرفة العلمية للحاجات النمائية لفئة السن الاجتماعية هذه"[5].



 : الهوامش *

[1] - "المراهق والعلاقات المدرسية" (مرجع سابق) ص75.
[2] - أحمد أوزي "المراهقون والشباب في عالم اليوم" حوار أجراه معه محمود ع.الغني ، "مجلة علوم التربية" المجلد الثالث، العدد الثالث والعشرون أكتوبر 2002 مطبعة النجاح الجديدة البيضاء، ص145.
[3] - حيدر فؤاد، "التخطيط التربوي المدرسي" ، دار الفكر العربي بيروت ، لبنان 1991،   ص150-151
[4] - " المراهق والعلاقات المدرسية "، (مرجع سابق)  ص76-77.
[5] - أحمد أوزي " المراهقون والشباب في عالم اليوم "، "مجلة علوم التربية" ، المجلد 3 العدد 23 ، أكتوبر 2002، ص148.


* توقيع الأستاذ عزيز سشا *

-تلميذ الثانوي التأهيلي و المدرس أية علاقة ؟

-تلميذ الثانوي التأهيلي و المدرس أية علاقة ؟

       إن علاقة تلميذ / مراهق بالمدرس / الأستاذ . علاقة تحمل في طياتها نوعا من التعقيد. إذا مانظرنا إلى المستوى الواقعي لهذه العلاقة كما تعاش داخل القسم، ومرجع ذلك إلى كونهاتشكل مجموعة علاقات مختلفة في مضامينها ومتباينة في مظاهرها، متضاربة من حيث أهدافها ومتشابكة فيما بينها.
"إنها أولا علاقات إنسانية لأن تحققها يستدعي حضور و تفاعل العنصر الإنساني مجسدا في المدرس و التلاميذ، و ثانيا علاقات تواصل بيداغوجي لأن التعليم هو بالدرجة الأولى إقامة تواصل مع التلاميذ، وعلى مستوى ثالث علاقات سيكولوجية و سيكو-سيسيولوجية، لأن فعل التعليم يتم ، في غالبية الأحيان في إطار جماعة القسم، فهو ذو طبيعة جماعية، هذا بالإضافة إلى أن إنجازه يكون مرفوقا بتبادلات وجدانية مختلفة"[1].
       فالمدرس يجمع في شخصه بين المعرفة والسلطة، ويقبع في الآن نفسه في موضع صورة الأب الذي قد يكون مركز  إعجاب المراهق أو موضوع حنقه و كراهيته، فنظرة التلميذ / المراهق إذن إلى أستاذه ليست نظرة بريئة أو خالصة وإنما تعتريها طبيعة العلاقة التي يكنها لشخص الأب. من هنا فإن الممارسة البيداغوجية للمدرس قد تختلط أحيانا بخيال المراهق/التلميذ و بإيهاماته، مما يجعل من عملية التعليم و التعلم عملية مؤسسة على علاقة سيكولوجية جد معقدة، لاسيما وأن المدرس "وسيلة المدرسة في تحقيق أهدافها وعن طريقه و بواسطته يتم التأثير في التلميذ، فالمدرس يتفاعل مع التلميذ في مجال تربوي يمثله الفصل الدراسي ، والفصل الدراسي بدوره يدخل في علاقة تفاعل واسعة مع المؤسسة المدرسة بكل مكوناتها و نظمها، ثم إن علاقة مدرس/ تلميذ تتم من جهة ثانية انطلاقا من ميثاق مشترك يربطهما ويتمثل في البرامج و المقررات الدراسية التي يسير المدرس على هديها و إرشاداتها و من جهة أخرى فإن علاقة مدرس/ تلميذ ليست علاقة ثنائية بل إن الخطاب المتبادل بينهما يبث تأثيره على الفصل الدراسي برمته[2].
       وفيما يتعلق بطبيعة الخصائص والصفات التي يرغب التلاميذ توافرها في شخصية أستاذهم، فقد قام العديد من الباحثين بجردها اعتمادا على دراستهم الميدانية في هذا الخضم و نسوق في هذا الصدد ما قام به "بييرطاب /P.Tap"من بحث حول "الصورة المثالية للأستاذ" محللا أثر التخصصات الدراسية على هذه الصورة، كما بحث أثر عامل السن في هذه العلاقة، وقد أسفرت نتائج هذا البحث على أن المراهقين في عمومهم ينتظرون من الأستاذ أن يكون متفهما قبل كل شيء و هذا أمر ينطبق بطبيعة الحال على مراهقي التعليم الثانوي أكثر ما ينطبق على مراهقي التعليم الاعدادي، وتحبذ الاناث من المراهقات أن ينطبع الاستاذ بهيبة ووقار  و أن تكون له  سلطة في الفصل الدراسي، أما ما يتعلق بالطرائق البيداغوجية الفعالة فإنها مرغوبة لدى المراهقين و المراهقات على حد سواء[3].
       وفي بحث آخرقام به الباحث "فيلدمان" "Veldman"يحدد خمس صفات تجعل المدرس ناجحا في أعين التلاميذ وهي[4] :

أ‌-    أن يكون شخصا محبوبا ومشجعا.

ب-أن يعرف كيف يمزج بين الاهتمام  و الرغبة في الدراسة.

ج-أن يعرف كيف يجمع بين الطاعة و السلطة.

د-أن يتقن جيدا مادة تخصصه.

هـ-أن يتحلى في معاملته للتلاميذ بالديموقراطية".

       إن تفهم المدرس للعلاقات التربوية والإنسانية وآليات استمرارها و نجاحها بينه و بين المتعلمين المراهقين يؤهله فعليا وعمليا لمساعدتهم وتمكينهم وتزويدهم بالخبرات المناسبة و الميكانيزمات الضرورية لبلورة شخصيتهم و تحقيق التوازن و الصحة باعتبارهما مفهومين متلازمين و متكاملين يجمعان بين الحاجات النفسية و الذهنية و الاجتماعية كحاجات داخلية لا تتعارض البتة مع حاجات الجماعة سواء جماعة القسم أو المجموعات الاجتماعية الأخرى"حينما تتحقق هذه النقلة النوعية في وعي المراهق و يتفهم المدرس هذه المرحلة يصبح بالإمكان توجيه خبرات المتعلم وميولاته العلمية و العملية نحو تحقيق النضج العقلي والانفعالي و الاجتماعي السليم. و بتحقيق هذا النضج تكون المدرسة قد حققت أخطر  وظائفها : استقلال المتعلم وتوظيف خبراته لخدمة المجتمع بحيث يحقق المتعلم المراهق رغباته من جهة ورغبات المجتمع دون أن تتعارض الرغبات"[5].

       وزبدة القول، إن المدرس في العصر الراهن مطالب أكثر من أي يوم مضى بتقصي الظروف الاجتماعية و الثقافية المحيطة بالمراهق المتعلم، والتي في ضوئها ومن خلالها يحدث التعلم، من هنا لايغدو التعلم مجرد عمليات ذهنية حبيسة البرامج الدراسية و منهجيات التدريس و أساليب التقويم فحسب، بل يمسي عملية فاعلة ترمي إلى تكوين شخصية المراهق و تغيير كثير من مظاهر هذه الشخصية و سلوكها بهدف تثبيت الإيجابي منها و تفعيله ومحو العادات السلبية و تنفيره منها . " إن المدرس الجديد ربما يكون لديه معلومات وافرة حديثة عن أساليب التعلم، و لكن ماذا يفعل بالضبط حينما يواجه الفصل الدراسي (...) كمسؤول عن مجموعة من التلاميذ مختلفين في الميول و القدرات، متباينين في بعض النواحي مثل الحالة التعليمية، أو الاجتماعية أو الأسرية، وهكذا بالنسبة لكثير من المشكلات السلوكية الأخرى" [6].



* الهوامش :


[1] - "المدرس والتلاميذ أية علاقة ؟" تأليف جماعة من الباحثين ،سلسلة علوم التربية" ، ص15، الطبعة الأولى، مطبعة نجم الجديدة / الجديدة ،يونيو 1989م.
[2] - "المراهق والعلاقات المدرسية " (مرجع سابق) ، ص98-99.
[3] -  المرجع نفسه ، ص99.
[4] - المرجع نفسه ، ص100.
[5] - " أسس التربية " ، (مرجع سابق) ،ص60-61
[6] - محمد أنور الشرقاوي، "التعلم والشخصية "، "مجلة عالمالفكر"، المجلد 13، العدد 2، عام 1986م، ص38.


- بقلم الأستاذ عزيز سشا -

من مخزون الذاكرة الحية التي لا تموت..

إلى الروح الطّاهرة الزكية..

"-إلى التي قاست ..
-و اعتصرت..
-و تأوهت..
-فأرقها المخاض..
-و تضورت عتمة الشُّقة و مغازي الحياة..
-فأنصفها الإله القدير..
-و هذا الضمير الحي بفخْرٍٍ قد شيّعها..
-و بعزّة نفس كان قد حيّاها..
-إلى التي فاضت روحها تسْمقُ..
-فغشيت روضات الجنان..
-و هذا المكان..
-إلى التي ظمئت فأروت ..
-ثم أدبت فأحنّتْ..
-و ها قد دثًّرت بعبقها الفوّاح فؤادي..
-و هذا العقل سرْمدا قد تضوّعها..
-فنظّمت بعبير صفاتها أفكاري..
-و كثيرا في أشعاري..
-تنْبُش بدماثتها في قراري..
-بين أحداقي تربضُ..
-تسْري..
-تجُوب أشعّة المُقًل..
-صاعدة تسمو في نزولها..
-شامخة تعلو بقُرْفُصَائِها..
-مِنْسَاةً تصنع لي..
-من وحي كنهها..
  -دِثارَ الهمّة و الصمُود..
 -فمعطف العفّة..
  -و دفْء الوجود.."

--"إلى روح أمي الطاهرة الزكية..و إلى أرواح جميع الأمهات.. أهدي هذه العبارات المنيرة المشرقة الفيّاضة..و هذي الكلمات المتلألئة الرقراقة..المنبجسة من أعماق الروح والفؤاد..بكل ما تحمله من معاني الشوق و الوداد.."


- توقيع ذ.عزيز سشا -

المشاركات الشائعة

مشاركة مميزة

البعد الاجتماعي والنفسي في رواية اللص و الكلاب

  البعد الاجتماعي  والنفسي   في رواية اللص و الكلاب البعد النفسي في رواية اللص والكلاب يحضر البعد النفسي في المؤلف بشكل كبير حيث نجد تداخل...

المشاركات الشائعة

المشاركات الشائعة