" وصية إلى : نفس زكية .. و روح نقية .. و عقل راجح ذكي .. و فؤاد مؤمن صفي.."

"أي بني :

اثبت على دأبك الصالح.. و اسبح في فيوضات فكرك الفاسح.. و انسج خيوط يومك الفالح .. هم في أعماق الفكرة.. و لا تجثو بين أحداق النبرة.. قيض لنفسك الهمم.. و انفض غبار الغشاوة و الحمم.. لا تسق عيناك مساق الفتن.. فتذق طعم الصبابة و المحن.. إنه وبيص حالك.. فاحذر و إلا امسيت هالك..

لا تنس وعدك المشهود.. و لا تنكث ميثاقك المعهود.. اثبت إذن على دأبك الصالح.. و اقتحم هوة كل طالح.. لا تمش بين الفلوات المقفرة.. بل الزم المسالك المقمرة.. اركب سفينة التقوى.. و ادرأ عن نفسك البلوى.. لا تزح ثوب النجاة عن قدك.. كن كأسلافك و سيرة جدك.. لا تكن أنت في ردك و صدك.. بل كن أنت مرآة لقلبك و حبك.. كن كما عهدت فيك رجلا جلدا صابرا.. و جلمودا مكافحا و مثابرا.. لا تأبهن بالدواهي و النوائب و الرزايا.. و لا تغرينك ذوات البهاء و العطايا.. كن للمثبطات متجاوزا.. و للعثرات قافزا.. و للمثالب مرمما.. و لغدك مصمما.. إياك أن تنتكص.. و احذر لنفسك أن تبتئس.. و لعقلك ان يبور.. و لقلبك أن يجور.. لا تخيب أملي و شموس غدي في يومك الذهبي.. كن ذاك الصنديد الأبي.. فأنت المستقبل و أنت الركن و أنت نشوة الحياة.. و أنت أريحية الروح السمحاء.. أنت صفاء السريرة.. و عبق الوجود.. لا تغفل تذكر أنك مجدود.. أخلص علمك و عملك لربك المعبود..

أي بني :

كبدي..فؤادي..نور مقلتي..لا تبلس بالقدر..فنعم الحال حالك..و بئست الحياة غير حياتك..احمدن ربك..و عد أهلك..و ارحم بالله من هلك قبلك..لا تغفو عيناك عن ربك تريد زهرة الحياة الدنيا و زينتها..بحبوحتها و بهجتها.. اسأل من ربك العفاف.. و ادعه الكفاف.. اسأله من دنياه عملا صالحا.. و صاحبة زهية سنية صالحة.. و اسأله من أخراه رضوانا و جنة و نعيما و خلدا عظيما..لا تتلهى نفسك عن أمورك و واجباتك..كن لوقتك ضابطا.. و لواجبك منظما.. و لنفسك مزكيا.. و لعصرك متقصيا.. لا تخبطن خبط عشواء.. و لا تخوضن معركة شعواء.. كن بين الحزبين مقتصدا.. و لا تكن مفرطا أو مكتسدا.. أنر طريقك بمشكاة عقلك.. و أخمد توهج نفسك و بركان نفسك.. بتلاوة وحي ربك.. و لذ إلى رحابه.. و ارتكن تحت ظلال جنابه.. فإنه سبحانه واسع المغفرة.. متقبل لكل معذرة.. لا يخذل عباده الصالحين.. و لا يردهم عن بابه خائبين..

"..قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعا. إنه هو الغفور الرحيم." صدق الله العظيم

-إلى ابني " محمد و أيوب " و إلى تلاميذي .. أهدي مقاصد هذه الوصية الروحانية الصافية.. المنبجسة من أعماق أوصال قيثارة الفؤاد .. بكل ما تحمله من معاني النصح و الإرشاد ..

- توقيع الأستاذ عزيز سشا

* مهارة كتابة موضوع إنشائي متكامل حول نص شعري ينتمي إلى تيار تكسير البنية ( الشعر الحر ) *


* النص الشعري :" في الليل "/ للشاعر : بدر شاكر السياب (نموذجا ).
* الفئة المستهدفة : الثانية باك علوم إنسانية و آداب .
_________________________________________
- النص الشعري :

            "في الليل .."

1. الغُرفَةُ موصَدَةُ البابِ
2. والصَمتُ عميقْ
3. وستائرُ شبّاكي مرخاةٌ..
4. ربَّ طَريقْ
5. يتنصَّتُ لي ، يترصَّدُ بي خلفَ الشبّاكِ ، وأثوابي
6. كمفزِّعِ بستانٍ ، سودُ
7. أعطاها البابُ المرصودُ
8. نَفَساً، ذرَّ بها حسّاً ، فَتَكادُ تفيقْ
9. من ذاك الموتِ ، وتهمسُ بي ، والصمتُ عميقْ :
10.” لم يبقَ صديقْ
11. ليزورَكَ في الليلِ الكابي
12. والغرفةُ موصدَةُ البابِ ” .
13. ولبستُ ثيابيَ في الوهمِ
14. وسريتُ : ستلقاني أُمّي
15. في تلكَ المقبرةِ الثكلى ،
16. ستقولُ : ” أَتَقْتحمُ الليلا
17. من دونِ رفيقْ ؟
18. جوعانُ ؟ أتأكلُ من زادي :
19. خرّوبِ المقبرةِ الصّادي ؟
20. والماءُ ستنهلُهُ نَهلا
21. من صدرِ الأرضِ.
22. ألا ترمي
23. أثوابَكَ ؟ والبَسْ من كَفَني ،
24. لم يبلَ على مرِّ الزمنِ ؛
25. عزريل الحائكُ ، إذْ يبلى ،
26. يرفوهُ . تعالَ ونمْ عندي :
27. أعددتُ فراشاً في لَحدي
28. لكَ يا أغلى من أشواقي
29. للشمسِ ، لأمواهِ النهرِ
30. كَسْلى تجري ،
31. لهُتافِ الديكِ إذا دوّى في الآفاقِ
32. في يومِ الحشرِ” .
33. سَآخذ دربي في الوهمِ
34. وأسيرُ فتلقاني أُمّي.

________________________________________
- موضوع المنهجية المتكاملة :

شكّل شعر تكسير البنية اتجاها شعرياً بالغ العمق والفرادة في منظومة الأدب العربي الحديث، إذ تمكّنت القصيدة العربية، في خضم هذا الإبدال، معانقة آفاقٍ إبداعية جديدة، نسفت خلالها القوالب الجاهزة والأبنية الشعرية النمطيّة التي كرّسها شعراءُ إحياء النموذج ، وأخلصوا لها ، ثم جدّدها، جزئياً، شعراء سؤال الذات . لقد فرض السياق التاريخي، بما حمله في أعطافه من تحولاتٍ سياسية ونكسات اقتصادية واجتماعية، البحثَ عن شكلٍ شعريٍّ يتساوقُ مع هذه التحولات.. من هنا، كانت الانطلاقة الفعليّة لارتياد ميسم شعريٍّ متحرّر من قيود المواضعاتِ الإبداعية البائدة.
إنّ ما حَبلت به النكبة الفلسطينية من أوجاعٍ وتصدعاتٍ، ومَا كابدهُ العالم العربي من استعمار غاشم، شجع شعراء هذه المرحلة على التخلص من رِبْقَةِ القصيدة القديمة و هيكلها الصارم ، للبحث عن نسقٍ فنيّ متفجرٍ، يمنح الشاعر فرصة التعبير عن حرقته و لواعجه و مراثيه و أفكاره و بوحهِ الأليم بطريقة سلسلة، طيعةِ لا إجحاف فيها و لا قيود ..
ومن الشعراءِ الذين تجشموا مَهمة اجتراح هذا الأنموذج الشعري وكسر النظام الشعري التراثي القديم ، نلفي الشاعر العراقي الكبير " بدر شاكر السياب " إلى جانب  الشاعرة " نازك الملائكة "وشعراء آخرون يضيقُ السياق عن ذكرهم جميعاً..
فما المضمون الشعري الذي عبر عنه الشاعر  ؟ و ما الخصائص الفنية و المعجمية و الإيقاعية المستثمرة
في قصيدته "في الليل" ؟  و إلى أي حد يعد هذا النص مثالا واضحا لشعر تكسير البنية شكلا ومضمونا ؟
أسئلة و أخرى سنحاول الإجابة عنها في مساق القراءة المنهجية التحليلية المتكاملة لهذا النص قيد الدرس .
يتضح من خلال النظرة البصرية للنص أن القصيدة تضع حدا فاصلا مع الموروث الشعري التقليدي، فقد كسرت الشكل الهندسي للقصيدة العمودية باستثمار نظام السطر الشعري بدل نظام الشطرين المتناظرين، كما استبدلت تنويع القافية والروي بوحدتهما، وتتفاوت الأسطر فيما بينها من حيث الطول تبعا للدفقة الشعورية. أما العنوان فيمثل شبه جملة غير تامة " في الليل = جار و مجرور "، الشيء الذي يدفع القارئ المخاطب إلى استعمال السيرورة التأويلية لاستبطان متاهاته إتماما لمعانيه، حيث يتم الربط بين الليل وما يحفل به من معان وسمات مميزة (الحزن ، الكآبة، السهر، السهاد، البعد ، الهدوء، السكينة، الموت ، الخوف...). فما علاقة العنوان بقصدية الشاعر ؟ وإلى أي حد يعتبر عتبة لمعرفة غياهب النص؟

لقد استهل الشاعر" بدر شاكر السياب" قصيدته بتأثيث فضاء الغرفة الموصدة واصفا إياها ومضفيا عليها مسحة كئيبة، ثم نظر إلى ثيابه نظرة متسائل يناجيها ويتحدث إليها افتراضا، لينتقل إلى حوار في خلده مع أمه، التي تحضر في جل قصائده، كاشفا عن نظرته الشمولية المختلفة نحو المكان والزمان والموت، ليؤول في نهاية المطاف إلى تأكيد لقائه بأمه في اللحد ، وفي ذلك إشارة إلى دنو أجله، فالسياب كان دائما يرى خلاصه في موته، نتيجة مرضه العضال الذي لم ينفع معه أي علاج..و يمكن أن نستجمع هذه المضامين في رؤية الشاعر الشاملة نحو الزمان والمكان والموت انطلاقا من معاناته، وهي رؤية ذاتية نفسية تطفح بها أغلب قصائده.

و لإبراز هذه المضامين الذاتية و النفسية المتأزمة استعان الشاعر بمعجم يمتح مادته من عناصر الطبيعة ، وهو معجم يجمع بين السلاسة والجزالة، تتخلله بعض الكلمات التي تستلهم من اللغة الموروثة، و يتوزع هذا المعجم إلى ثلاثة حقول دلالية هي :
* حقل الألفاظ الدالة على المكان نمثل لها ب:(الغرفة، ستائر، بستان، المقبرة، الأرض، لحد، النهر...).
* حقل الألفاظ الدالة على الزمان نمثل لها ب: (الليل، سريت، الزمن، يوم، الحشر، أسير، ستلقاني...).
* حقل الألفاظ الدالة على الموت نمثل لها ب: (الموت، سريت، الثكلى، أمي، كفني، عزريك، نم، لحدي...).
✓ تجمع بين هذه الحقول علاقة بنيوية متكاملة تجسدها النظرة الشمولية للشاعر نحو الكون والعالم، فالسياب يعيش غربة في المكان وغربة في الزمان وغربة في المصير المنتظر ( الموت ) ، إن الغربة إذن هي النواة الجامعة لهذه الحقول الدلالية .
هذا من الناحية المعجمية، أما من الناحية التركيبية فقد تعددت الضمائر في القصيدة بين ضمير الغائب (يتنصت ، يترصد ، أعطاها الباب المرصود نفسا...)، وضميري المتكلم والمخاطب في الحوار ( ليزورك، لبست ثيابي، سريت، ستقول لي..)، ليجعل من القصيدة مرآة تعكس قصة متخيلة صنعها مخيال الشاعر المتأثر بمغص مرضه العضال .
 أما ما يتعلق بالجمل فقد زاوج صاحب النص بين  الجمل الفعلية الدالة على الاستمرار و الحركية و الدينامية والتجدد ، و الجمل الإسمية الدالة على الثبات والاستقرار ، فالشاعر يرصد من خلال الإسمية حال الغرفة ومعاناته بها (الغرفة موصدة الباب، الصمت عميق..) ، بينما تدل الفعلية على التحول (ليزورك في الليل الكابي، لبست ثيابي، سريت، ستلقاني أمي، لم يبل على مر الزمن، أعددت فراشا...)، وهي المهيمنة في النص، لأن الشاعر بصدد التحول نحو المصير المحتوم: الموت.
و من الناحية التصويرية اعتمدت الصورة الشعرية في النص إلى جانب الانزياح و الرمز و الإيحاء على التشبيه مثل: (وأثوابي كمفزع بستان)= تشبيه محسوس بمحسوس، وكذلك الاستعارة كما في قوله (أعطاها الباب المرصود نفسا) = الاستعارة المكنية حيث حذف المشبه به(الروح) وأبقى على شيء من لوازمه (النفس) ، وكذلك الشأن في (من صدر الأرض) كاستعارة مكنية أيضا.. وكلها صور تقوم بوظيفة تعبيرية إبلاغية في النص، كما يمكن جعل القصيدة كلها صورة مشهدية شاملة كلية.
و فيما يخص الأساليب فقد زاوج الشاعر بين الأسلوبين : الخبري والإنشائي، فهو يستعمل الأول للإخبار عن معاناته وتصوير واقعه المزري، والغربة التي يعيشها في المكان والزمان والموت (الغرفة موصدة الباب، ستائر شباكي مرخاة..)، وهي كلها أخبار خالية من التوكيد ، أما الثاني فيرتبط بانفعالات الشاعر و يغلب عليه الإنشاء الطلبي المتمثل في الاستفهام (من دون رفيق؟ خروب المقبرة الصادي؟ ألا ترمي أثوابك؟) وهي استفهامات لا تفيد بحسب مقتضى الظاهر، بل خرجت عنه لتفيد معنى مستلزما حواريا بحسب مقتضى الحال تفيد الالتماس واليأس.
و من حيث الإيقاع الخارجي نظم الشاعر قصيدته على تفعيلة (فاعلن) المقتبسة من وزن بحر المتدارك، وهو من الأوزان الخليلية الصافية، بيد أنه لم يحترم قواعد الخليل في استثمارها ، حيث وظف نظام السطر الشعري بدل نظام الشطرين المتناظرين، و وزع التفعيلة في أسطره الشعرية بشكل غير متكافئ حسب دفقته الشعورية وتجربته الشاعرية، فهي حينا واحدة(السطر الرابع) وحينا آخر تفعيلتان أو ثلاث تفعيلات.. كما اعتمد ظاهرة التدوير حيث تبدأ التفعيلة في السطر الخامس و تنتهي في السطر السادس، ونوع القافية و الروي، فالأولى مطلقة رويها متحرك في الأسطر ( 15- 20..)، ومقيدة رويها ساكن في أسطر أخرى( 4-8..) مردفة (8-3-4-17) وغير مردفة (20-22..)، و الروي حينا القاف، وهو حرف شديد جهور، وحينا الباء أو الدال، وهي كلها شديدة، أو النون و الميم، وهي حروف شفوية تدل على الأنين والحزن، إنها أصوات مرتبطة بالمعاناة والأسى والتأزم.
أما الإيقاع الداخلي فتميز بتكرار حروف بعينها أهمها أرواء القصيدة، فالقاف تكرر 13 مرة والدال تكرر 12 مرة والباء تكرر 13 مرة، وهي كلها حروف شديدة مجهورة تعكس شدة المعاناة والجهر بها، كما تكررت عدة حروف مهموسة كالهاء والسين لتعكس الجو النفسي المتأزم للذات الشاعرة ، وتكررت أيضا الحروف الممدودة باطراد لتفيد التأوه والحسرة، ولم يقتصر التكرار عند الحروف، بل تعداه إلى الكلمات (الباب 3 مرات، والصمت مرتان) وتكررت عبارة (الصمت عميق)، وتكررت كلمات عن طريق الجناس (نهلا/ نهل، ليلا / الليل)، و أسطر شعرية محددة بعينها قدمت القصيدة في صورة أغنية حزينة ، أما التوازي فيتضح من خلال التوازي الصرفي ( عميق/ صديق، زادي/ صادي، عميق/ طريق,,)، والتوازي التركيبي التام في قوله: (الغرفة موصدة الباب، رب طريق، لم يبق صديق)، ثم التوازي الدلالي (62-27) الذي يضم كل الكلمات التي تجمعها نواة معنوية ناظمة للنص تفيد المعاناة والاغتراب.
✓إن المزاوجة بين التكرار والتوازي وغيرهما على مستوى البنية الإيقاعية قد خلق للنص منغما موسيقيا منسجما مع المعاناة التي يعيشها "بدر شاكر السياب " و ذلك، لا محالة، يؤثر في نفسية المتلقي.

و تأسيسا على ما سبق نخلص إلى أن النص الشعري قيد الدرس قد تمثل أيما تمثل لخطاب تكسير البنية  في الشعر العربي الحديث، حيث استجمع كل مقومات هذا التيار الحداثي المعاصر ، فجاء البناء الهندسي فيه مكسرا للبنية الشعرية العربية التراثية ،  كما عددت القصيدة الروي و نوعت القافية، و سيقت المضامين مبنية على رؤيا الشاعر التشاؤمية، واعتمد الشاعر معجما تتأسس مفرداته على خرق المألوف و المعتاد في تركيبها، و متحت الصورة الشعرية مادتها من الإنزياح و الخيال التوليدي وخلق علاقات جديدة بين الكلمات بحسب السياق والرؤيا الشعرية، متوسلة بالرمز والإيحاء،أما الإيقاع فنظم على مبدأ التفعيلة بدل الوزن الشعري الخليلي ، و اعتمد على السطر الشعري والجملة الشعرية وغيرها، وكلها خصائص تمتح من معين تيار تكسير البنية و تجديد الرؤيا على حد سواء .
و ختاما لا يسعنا إلا أن نقول بأن الشاعر العراقي الكبير " بدر شاكر السياب" قد ترك بصمات خالدة على صفحات القصيدة العربية الحديثة بنية و لغة وأسلوبا و إيقاعا…ليضعنا أمام بنية شعرية متماسكة، تستلهم النفس الذاتي/الوجداني في تمتين الوحدة العضوية للنص الشعري ، و تشتغل دراميا على صوتين متداخلين : صوت الشاعر و صوت الأم ، بين اليأس والأمل..

منهجية النص القصصي " البحار المتقاعد "

* الفئة المستهدفة : الثانية باك علوم إنسانية و آداب .
* الموضوع : منهجية النص القصصي " البحار المتقاعد " .

تعتبر القصة القصيرة شكلا حديثا من أشكال الخطاب السردي، عرفت تطورا ملحوظا لارتباطها بتعدد الوسائط، وهي بوصفها نموذجا سرديا تستجيب لقواعد الخطاب السردي في شموليته، لها مقومات ومبادئ أساسية ، قوامها الوحدة، أي وحدة الموضوع والانطباع والحدث، ونظرا لقصر حجم هذا النوع فإن الاهتمام فيه يقتصر على حدث معين انطلاقا من موضوع واحد بإمكانه أن يخلق انطباعا مخصوصا في ذهن المتلقي، ثم التكثيف والتركيز في أفكار القصة بعيدا عن الإطناب والاستطراد، ومن أعلام هذا الفن نذكر محمود تيمور وأحمد بوزفور ومحمد إبراهيم بوعلو التي تطفح نصوصه السردية بخبايا تناقضات المجتمع المغربي خصوصا. فما مضمون القصة ومغزاها؟ وما خصائصها الفنية؟ و ٱلى أي حد استطاع تجسيد تقنيات الكتابة القصصية المعاصرة ؟
أسئلة و أخرى سنحاول الإجابة عنها في معرض هذه القراءة المنهجية التحليلية القصة قيد الدرس.

  يتكون عنوان القصة، من الناحية التركيبية، من جملة بسيطة مبتدأها محذوف تقديره "هذا" والبحار خبر مرفوع والمتقاعد نعت للبحار تابع له، أما من الناحية الدلالية فنلاحظ أن الكاتب جمع بين البحار و المتقاعد، فقد يدل العنوان على أن الصياد متقاعد عن العمل ويمارس الصيد هواية، أو أن الصياد البحار متقاعد فعلا عن الصيد، بالرغم من أن التقاعد أو القعود في المخيال المغربي يرمز إلى الوهن والكسل والموت السريري حقا، فما علاقة هذا اللبس بمقصدية الكاتب؟
يتضح انطلاقا من عتبات النص إذن أن محمد إبراهيم بوعلو سيتحدث عن بحار متقاعد بلغ من الكبر عتيا، وليس له من العمل إلا ذكرياته، وسينتهي به القدر أخيرا إلى أن هذا البحر لم ولن يحن عليه. فكيف تتجلى هذه الافتراضات في ثنايا مضامين النص؟
تتحدث قصة "البحار المتقاعد" عن جد وحفيد يذهبان معا يوميا إلى شاطئ البحر ينتظران قدوم سفينة لغرض ما، إن الأمر أشبه بحدث يومي. فهل حقق هذان العاملان موضوع القيمة؟

لقد تخلل المتن الحكائي للنص ثلاث متواليات سردية نظمت حبكته، تشير إليها مجموعة من المقاطع كالآتي :
 1- المقطع الاستهلالي : تمثل في المتوالية الأولى من"كان يأخذ حفيده...إلى ورجع إلى البيت" وتتعلق هذه الوضعية البدئية بسير يومي للجد مع الحفيد إلى الشاطئ، وهما يتطلعان إلى الأفق.
2- المقطع الوسطي (سيرورات التحول ): تمثله المتوالية الثانية من "سأل الحفيد ...إلى هذا ما فكرت فيه أنا أيضا،و يتعلق هذا المقطع بحوار دار بين الأب وابنه حول سبب ذهاب الجد إلى الشاطئ بشكل دائم .
3- المقطع النهائي : تمثله المتوالية الثالثة من"ظل الأب يفكر بجدية في الحوار ..إلى كم كان البحر قاسيا معه"، وترتبط هذه الوضعية النهائية بإفشاء الحفيد سر جده بعد الحوار الذي دار بينه وأبيه.(لكم أنتم أن تعودوا إلى تفاصيل المتواليات السردية بمراحلها الثلاثة و جزئياتها على دفتر الدروس ).

إن هذه الأحداث المتوالية رهينة بقوى فاعلة ( انظر محور الشخصيات و علاقاتها على الدفتر مرحلة التحليل ).- قوى فاعلة- تحدثها أو تحدث لها، تختلف في أدوارها بحسب وظائفها العاملية في المسار السردي وفق النموذجين العامليين الآتيين اللذين يحددان بنية التفاعل بينها في تطور الأحداث الفرعية للقصة:

* النموذج العاملي الأول:

 1-  المرسل : الشوق.
 2- المرسل إليه : البحر .
3-  الذات : الجد.
4-الموضوع :عودة السفينة.
5- المساعد :الحفيد+الذاكرة.
6- المعاكس : الغروب .

* النموذج العاملي الثاني:

1-المرسل :الفضول+الجد.
2 - المرسل إليه : إشباع الفضول.
3- الذات : الحفيد .
4- الموضوع : معرفة أصدقاء الجد +الحقيقة.
5- المساعد :الجد+ البحر .
6- المعاكس :الأب+صغر سنه.

ينظر إلى هذين النموذجين العامليين باعتبارهما نسقا، حيث تجمع بين هذه العوامل علاقات ثابتة ثلاث :
1- علاقة تواصل بين العامل المرسل والعامل المرسل إليه.
2- علاقة رغبة بين العامل الذات والعامل الموضوع، 3- علاقة صراع بين العامل المساعد والعامل المعاكس.
 إن تحريك هذين النموذجين العامليين يتم من خلال الانتقال من النسق إلى الإجراء عبر ترسيمة سردية من أربع مراحل:
•    التحفيز: يتم في هذه المرحلة إقناع العامل الذات من قبل المرسل بالبحث عن موضوع القيمة، ففي النموذجين العامليين معا ينظر إلى العاملين المرسلين بوصفهما مقنعين معنويين، فالشوق محرك معنوي والفضول كذلك، لكن الجد عامل مرسل تنتفي فيه شروط التحريك والتحفيز والإقناع لغياب التواصل بينه والحفيد، وهذا ما سينعكس على البرنامج السردي للعامل الذات استقبالا.
•    القدرة: تتعلق القدرة بالشروط الضرورية التي يجب على العامل الذات أن يتوفر عليها ليكون مؤهلا للبحث عن موضوع القيمة، ففي النموذج العاملي الأول الجد مؤهل غير أنه ينقصه التنظيم في الذاكرة، أما النموذج العاملي الثاني فالحفيد غير مؤهل لأن علاقته بالمرسل ليس فيها تواصل وأهليته مرتبطة بأهلية الجد. وإذا كان العاملان معا غير مؤهلين فإن برنامجيهما السرديين سيكونان، لا محالة، فاشلين بالضرورة.
•    الإنجاز: ترصد هذه المرحلة الأساس في الترسيمة السردية الحالات والتحولات في علاقة العامل الذات بموضوع القيمة، ففي الحالة البدئية أو الوضعية الأولية العاملان معا منفصلان عن موضوعي القيمة، ثم في الحالة الوسطية  أو العقدة نجد أن العاملين معا نظرا لنقصهما في الأهلية جعل أمر بحثهما عن موضوع القيمة غير ذي جدوى، فلم ترسو السفينة في الشاطئ بعد طول انتظار، مما يجعل البرنامجين السرديين معا فاشلين لزوما، وظلت حالة الانفصال عن موضوع القيمة قائمة.
 
•    الجزاء: يعد المرحلة الأخيرة في الخطاطة السردية، إنه الحكم على المسار السردي بأكمله، فالبرنامجان السرديان معا فاشلان لأن العاملين معا غير مؤهلين، وهو شرط كاف لهذا الفشل.
وقد برزت الرؤية السردية من خلف في النص، وهي رؤية كان فيها السارد أكثر معرفة بشخصياته يستطيع سبر أغوارها والتعرف إلى خلجاتها، تشير إليها الإشارات اللغوية الآتية على سبيل المثال: "كل منهما يفكر في شيء"، يظهر أن الحفيد يتضايق.."، "وانتقل الأب يفكر بجدية في الحوار"، و في المقابل نشير إلى هيمنة الرؤية المصاحبة نتيجة هيمنة الحوار حيث تتحدث الشخصية بنفسها عن حالها ( حالة التساوي بين السارد و الشخصية ).
 تخدم هذه الرؤية غرض النص في الكشف عن تناقضات المجتمع المغربي الذي يرصده، أما من حيث التنظيم الزمني و المكاني في النص الذي يسيج الأحداث ويؤطرها، فلا نجد له مشيرات لغوية كثيرة لأن القصة عبارة عن حدث يومي يبدأ كل مساء في عرض البحر إلى جانب البيت الذي دار فيه الحوار بين الأب والابن، وفي ذلك إشارة من الكاتب إلى أن البعد الزمني غير مطروح في الذهنية المغربية.
وقد تعددت المكونات القصصية في النص مما جعله غنيا، إن السرد أساس العمل القصصي، وهو أن يتكفل السارد بنقل الأحداث مباشرة أو بطريقة غير مباشرة .
 أما الوصف فيعد تكسيرا لرتابة السرد وإغناء وتمطيطا له أيضا، كما أنه يريح السارد من عبء الحكي، ويكفي القارئ عناء تتبع الأحداث، وهو إما وصف خارجي أو داخلي، اقتصرت فيه القصة على وصف المظاهر النفسية الداخلية وحسب: "ولم أنت حزين هكذا؟"، "إن جدي يصيبه حزن شديد كل مساء".
 و بالنسبة للحوار في مساق هذه القصة فيقوم أيضا بتكسير رتابة السرد ورسم الشخصيات ثم الإيهام بواقعية الأحداث ، وترك الشخصيات تعبر عن نفسها بأسلوبها الخاص، و يؤشر على ذلك الحوار الذي دار بين الأب والابن لمعرفة سبب ذهاب الجد إلى الشاطئ. لقد تضافرت هذه المكونات السردية الثلاث في رسم معالم القصة إلى حد التداخل فيما بينها.
وقد هيمنت، من الناحية الأسلوبية، اللغة العربية الفصحى على النص، حيث إن الكاتب عمد إلى طبقة لغوية واحدة، ولم يترك لشخصياته فرصة التعبير عن نفسها بأسلوبها الخاص، بالرغم من أن الحوار هيمن على القصة، فلم يلتفت إلى التهجين أو العاميةأو غيرهما من الأساليب التي تعدد من الطبقات اللغوية في النصوص الحكائية عموما، كما يغلب على النص الاستفهام لأن الحوار هو المسيطر، ثم نقط الحذف ما دام الكاتب يريد إشراك القارئ المتلقي في تنظيم الأحداث وإغنائها وتحديد أبعادها، وتراه  يترك غالبا تدخل الشخصيات بين مزدوجتين.
لقد حاول محمد إبراهيم بوعلو من خلال هذه القصة تصوير معاناة بحار عجوز متقاعد لا زال يجتر ذكريات الماضي، ويحن إلى البحر الذي قضى به سنوات عديدة من عمره جعلته يداوم على زيارته كل مساء مصحوبا بحفيده الذي يلعب معه لعبة الانتظار الذي يغذي، ولو قليلا، شوقه وحنينه إلى ركوب الموج. إن الكاتب يريد إطلاعنا على نموذج مغربي يمتح من معين طبقات مسحوقة لم تعد تعش إلا على ذكرياتها، لما تعانيه من تهميش وإقصاء، كما يتحدث عن صراع الأجيال وعدم التواصل بينها، وهذا ما يؤرق التنشئة الاجتماعية المغربية عموما ويقض مضجع كل متبصر ذي رأي حصيف .

المشاركات الشائعة

مشاركة مميزة

البعد الاجتماعي والنفسي في رواية اللص و الكلاب

  البعد الاجتماعي  والنفسي   في رواية اللص و الكلاب البعد النفسي في رواية اللص والكلاب يحضر البعد النفسي في المؤلف بشكل كبير حيث نجد تداخل...

المشاركات الشائعة

المشاركات الشائعة